"كان المشرّدون الموضة المسرحية في تسعينيات القرن الماضي، وامتلأت الخشبات بهم، وبعدها جاء دور ذوي الإعاقة، وانتهى دورهم. أما الآن، فبات اللاجئون الموضة المسرحية الجديدة، وامتلأت الخشبات باللاجئين"، تأتي هذه العبارة على لسان عاملة في منظمة غير حكومية، لدى عرض مسرحية "الشفقة: تاريخ المدفع الرشاش" للمخرج السويسري ميلو راو.
بدأ عرض المسرحية الوثائقية على خشبة "شاوبونه" في برلين في نيسان/ أبريل الماضي ويتواصل حتى نهاية الشهر الحالي، وسينتقل ضمن جولة على عدة مسارح ألمانية.
يبدأ العرض بدخول فتاة سوداء (أداء كونسوليت سيبيريوس) نجت من الحرب الأهلية في الكونغو وقامت عائلة بلجيكية بتبنّيها. تجلس الفتاة متحدّثة إلى الجمهور وإلى كاميرا تعرض وجهها على شاشة كبيرة أعلى المسرح، بينما الخشبة أمامها متسخة ومليئة بالركام والحطام.
تتكلم لمدة ربع ساعة فقط عن مشاعرها وعلاقتها بنفسها. أصبحت بلجيكية بالصدفة، هي من شاءت موازين القوى أن تكون ضمن الفئة الأضعف في الاقتتال الأهلي، وشاءت الصدف أن تكون الناجية الوحيدة من عائلتها، وهي التي تم تبنّيها عشوائياً.
ولكن لماذا تروي هذه الفتاة قصّتها لجمهور أوروبي في عرض ميلو راو؟ أو لنضع السؤال كما يصيغه العرض: "لِمَ يجب علينا (نحن الأوروبيين) تحمّل مآسي الآخرين؟ ولماذا نشاهد ما يحدث معهم في الأخبار؟ لِمَ يعتبر الميّت على بوابات أوروبا أكثر أهمية من آلاف ضحايا الحرب الأهلية في الكونغو؟".
يجيب العرض على أسئلته ضمن سلسلة من التناقضات على لسان امرأة بيضاء أوروبية، والتي ستستحوذ بدورها على المسرحية بمونولوغ يتجاوز الساعة ونصف الساعة. تقف السيدة السويسرية (أداء أورسينا لاردي) على منصّة وراء الركام ويظهر وجهها على الشاشة نفسها. تتحدّث بجهل عمّا يحدث في العالم وعن أزمة المهاجرين وعدم درايتها بما حصل مع الطفل إيلان الكردي. ثمّ تقوم برحلة مع طاقم العمل إلى الكونغو وإلى المتوسط بوابة العبور المميتة إلى أوروبا لتواجه ما يواجهه "الآخرون".
تقوم الشخصيّتان بسرد الوقائع التي انتقلت فيها الفتاة الكونغولية إلى أوروبا ناجية من هلاك الحرب الأهلية، وانتقال المرأة السويسرية إلى الكونغو للتفاعل مع حرارة الحدث. يتفّق الجميع على ضرورة الترويج للنوايا الطيبة.
ولكن، وأمام كثافة الدماء وركام الجثث، تصبح النوايا الطيبة ساذجة بدعوتها للمحبة والمساعدة فقط. ومن هنا تبدأ سلسلة الانتقادات الذاتية التي يسوّقها العرض لموقف ومساعي المرأة السويسرية.
هناك الكثير من العجز أمام الساعين لإنقاذ البشرية، وبالطبع قد تكون إحدى الإجابات عن السؤال الحرج: لِم يعتبر إيلان الكردي أكثر أهمية من جميع من ماتوا في الحرب الأهلية في الكونغو، أم أن إنقاذ الغريق أسهل بكثير من إيقاف الحرب؟.
ولكن هناك الكثير من الأسئلة حول التخوّف على القيم والأخلاق الأوروبية أمام تدفّق اللاجئين، الذي يقلق كثيرين من بينهم المفكّر السلوفيني سلافوي جيجيك والمرأة السويسرية في عرض المخرج راو.
وبالطبع هناك التساؤل عن مشروعية استحواذ المرأة السويسرية على المساحة الأكبر من العرض لتروي تجربتها مع المعرفة والذنب والأمل، بينما تبقى الفتاة السوداء الناجية صامتة ومكتفية بافتتاح العرض واختتامه بخفة ظلها.
لا تتوقّف الأسئلة عند ما يطرحه المخرج، بل تستمر لنتساءل عن الشخصية التي تستحق الشفقة فعلاً، وهل هي السوداء الناجية من العنف في أفريقيا أم أنها البيضاء التي تعيش عزلتها وإنكارها؟ وبعد أن نهب الفرد الأوروبي ثروات بلاد الآخرين، يستخدم مآسيهم ليملأ أحاسيس الذنب والحزن التي يعيشها.
وإن كانت الموضة بين المشرّدين وذوي الإعاقة واللاجئين متغيّرة عبر العقود، إلا أن الموضة الثابتة هي لجوء الأوروبي إلى مآسي الآخر كي يملأ فراغه.