"الحرية السائبة" صانعة أزماتنا

19 أكتوبر 2017
+ الخط -
يستند فهم العربي للحرية، كما فهمه لغيرها من المفهومات، إلى إرثٍ منهجي في التفكير، وفهمٍ معين للكون وللعالم. لذلك يمكن القول، بالعموم، إنّ الحرية العربية تستند إلى الفكر العربي، وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة، قلنا إنها تستند إلى ذهنية الأعرابي البدوية. وهذه أثبتت حضورها الدائم في المقاربات العربية، وخصوصًا في القرارات المصيرية والحاسمة التي تقارب المسائل المعاصرة، ومشاريع النهوض، وبناء السرديات الكبرى. وهذا ليس مستغربًا إذا عدنا إلى حيثيات عصر التدوين الذي بدأ في القرن الثاني للهجري، بعملية تقعيد اللغة العربية، حيث تم وضع الأعرابي البدوي الأُمي، في قلب الحدث، بوصفه أهم مصادر المعرفة اللغوية، وبالتالي استتبع ذلك نقلًا لثقافة البادية وذهنيتها، فضلًا عن لسانها.
لم يعرف الأعراب/ البدو، ولا العرب/ الحضر، معنى الحرية بشكلها المرتبط بالقانون، أو المستند إلى الفلسفة، والذي يهدف إلى تنظيم حياة البشر، لما فيه خيرهم جميعًا. بل عرفوا فهمًا آخر للحرية، ما زال قادرًا على إعادة إنتاج نفسه. هو مفهومٌ أقرب إلى الأنانية، منه إلى الاجتماع التشاركي، يمكن تسميته "الحرية السائبة". وفي لسان العرب: "ناقة سائبة"، أي لا ينتفع بظهرها، ولا تُركب؛ وقيل: أُغِيرَ على رَجل من العرب، فلم يَجِدْ دابَّةً يركبُها، فرَكِب 
سائبةً؛ فقيل أَتَرْكَبُ حَراماً؟ فقال: يَركَبُ الحَرامَ مَنْ لا حَلالَ له، فذهَبَتْ مَثَلاً. ويمكن القول إنّ العرب لم يطوّروا إرثًا فكريًا عن الحرية، أو إن عهودًا مختلفة من الاستعباد قد محت إرثهم الفكري بشأنها، والأمر هنا سيان، ففي الحالتين، لم يجد العرب "حلالًا ليمتطوه"، فتبنوا "الحرية السائبة"، بوصفها "فضيلة مطلقة"، لا تُقنن، ولا ينتفع من مفهومها. ومن أهم ما يعوز العرب منذ الجاهلية الشعور بلزوم الحد من الفردية الجامحة التي لا تعترف بحريات الآخرين، وبضرورة إدراك أهمية إطاعة المجتمع، لتحقيق المصلحة العامة، وإخضاع إرادة الحاكمين لمصلحة حكم الجماعة، والتحديد من أنانيتهم المفرطة، ومن البتّ في أمور الرعية، وكأن الرعية سوادٌ من ماشية، عليها إطاعة سوط الحاكم وأوامره، من دون أن يكون لها حق في إبداء الرأي.
لم يعرف العربي حريةً مقترنةً بنظام سياسي قوامه الفلسفة، كما عرفها اليونان؛ أو قوامه القانون، كما عرفها الرومان، بل عرف "حرية سائبة"، قوامها الفردية الجامحة. لذلك لم يشكلوا مدينة سياسية (بوليس)، بل كانوا في أحسن الأحوال "أهل مدر"، وشكلوا نموذجًا للديمقراطية المبالغ فيها إلى حدٍ بعيد، بحسب تعبير لامانس، في وسط "متبدٍّ" (من بادية)، غير متحضر على شاكلة الرومان واليونان... ومن الطبيعي أن تنتج الحرية السائبة فردانيةً سائبة، وعقلًا غير شمولي، وغير منظم، لا يربط بين العلة والمعلول، ولسان العربي أمهر من عقله، 
فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره المعنى، على حد تعبير أحمد أمين. وتترك هذه الحرية السائبة آثارها الرئيسية على أربعة مستويات: السيكولوجي، حيث تمنع تكوين الاستعداد النفسي اللازم للخضوع للقانون، وبالتالي تشكل بيئة قابلة للاستبداد، وحاضنة للفساد، وتشكل مناخًا يسمح بحكم القوي الجائر على الضعيف. السوسيولوجي، حيث تؤدي إلى تردّي المنظومة الأخلاقية الاجتماعية، وانحدار في منظومة القيم المجتمعية، وتحكيم شريعة الغاب. السياسي، حيث تجهض الحرية السائبة جميع محاولات إنتاج عقد اجتماعي عصري، وتجهض أي محاولةٍ للانتقال الديمقراطي، ولتعزيز سيادة قانون منفتح. وأخيرًا على مستوى العلاقات الدولية، وسياسات الدول الخارجية، حيث يستند تفكير (ومقاربات) بعض الحكام الذين يحكمون بذهنية رئيس القبيلة إلى الحرية السائبة؛ فيعتقدون بضرورة حصار من يعتقدون أنه ضعيف واستنزافه، كما تجعلهم يخافون ممن يعتقدون أنه قوي. وربما تكون السياسة الخارجية الإماراتية مثالًا واضحًا على ذلك، وخصوصًا في اليمن، وملف حصار قطر، وطبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة، وغير ذلك من ملفات المنطقة. وفي أزمات المنطقة العربية أمثلة كثيرة على ذلك، منها: دخول قوات حافظ الأسد إلى لبنان عام 1976، والتحكم بهذا البلد وبمصائر الناس. وغزو صدام حسين الكويت في 1990. وأخيرًا الحصار الذي فرضته السعودية والإمارات على قطر. وبشكلٍ مليشيوي، يمكن رصد حوادث كثيرة، منها استيلاء جماعة جهيمان العتيبي على المسجد الحرام في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 1979، واحتلال حزب الله بيروت في 7 مايو/ أيار 2008. وغيرهما أمثلة وحوادث كثيرة، تتم وكأن "الدنيا سائبة"، بحسب التعبير الشعبي العام الذي لم يأتِ من فراغ. وكما المالُ السائب يعلم الناسَ الحرام، فإن الحرية السائبة مازالت، في أغلب الأحيان، تحول بين الإنسان العربي وإنسانيته، وبين المجتمع العربي وبناء دولته الوطنية الحديثة.
B4769262-978B-41E7-8365-77B95D66AED6
مضر رياض الدبس
باحث وسياسي سوري، الرئيس السابق لحزب الجمهورية السوري، له دراسات وأبحاث منشورة، ومن كتبه: مفهوم المواطنة أو صورة السيتزنية في المستقر الإيماني، وفي ضوء الألم، تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري، وعقل الجهالة وجهل العقلاء