الذات قبل "الإدارة الذاتيَّة" في سورية
يهدف هذا النصّ إلى التفكير السياسي الهادئ في مصطلح "الإدارة الذاتية"، بعد أن صارَ حاضرًا في أذهان بعض السوريين خارج نطاق تجربة مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، وتحديدًا في السويداء. ويتداخل استخدامه بمصطلحيْن آخريْن، الفيدرالية واللامركزية، وكأنهما صالحان للإشارة إلى الفكرة نفسها! وقد ننطلق من هذا التداخل إلى التفكير في مصطلح "الإدارة الذاتية"، ونقول مَبدئيًا إن الفيدرالية شيء واللامركزية شيءٌ آخر، والإدارة الذاتيَّة شيءٌ غير الأول وغير الثاني. تنتمي الفيدرالية إلى أنظمة الحكومات، أما المركزية فأقرب إلى المنهجية، ولكليهما إيجابياتٌ كثيرة، وهما يفتحان آفاقًا للتطوّر والازدهار. ومع أنهما ليسا موضوع هذا النصّ، إلا أننا يمكن أن نقول إنهما بالضرورة لا يتحققان من دون مفهوم الشعب: يعني لا يمكن أن تكون الفيدرالية، أو اللامركزية، في سورية إلا ضمن ما يعنيه شعار الثورة الرائع: "الشعب السوري واحد". من ثم يصير أيُّ كلامٍ في الفيدرالية، أو اللامركزية، مع مصطلح "الشعوب السورية"، كلامًا لا معنى له، ويدلّ على غياب التأهيل للعمل السياسي في الوضع السوري، أو على أهدافٍ انقسامية أو أجنداتٍ خارجية تعالج مشكلاتٍ لا يمتلكها السوريون.
في الأحوال كلها، يمكن أن نبدأ من الكلمة الأهم بتقديرنا في هذا المصطلح، وهي "الذاتيَّة"؛ فالإدارة مسألة أقلّ تعقيدًا من مسألة بناء الذات في السياسة، وقد نسأل: من هي الذات التي تُدير نفسها عندما يُستخدم هذا المصطلح في المشروع الذي أقامته "مسد"، أو عندما يُستخدم المصطلح نفسه في السويداء في أثناء اقتراحِ "إدارةٍ ذاتية" فيها هذه الأيام؟ من هي هذه "الذات"، وما تأثيرها على فكرة الشعب السوري، وعلى الجماعة المحلية، وما تبعات المُضي في هذا النمط من السلوك السياسي والتفكير؟ إذا كانت الكردية هي "الذات"، أو "الدرزية" هي الذات، أو سكّان مناطق نفوذ "مسد" أو المنطقة الجنوبية هم الذات، فمن هو الآخر؟ لأن كلَّ تعريفِ أو تحديدٍ لذاتٍ يعني بالضرورة تحديدًا وتعريفًا لآخر.
التعدّدية الثقافية، واللامركزية المعلنة في شعارات "الإدارة الذاتيَّة" هدفٌ رائع، ولا يمكن لعاقلٍ أن يكون ضدّه، ولكن بشرط أن يكون له منهجٌ لامركزي من جنسه
ثمّة طريقٌ مألوف محببٌ إلى قلوبنا وعقولنا، وهو القول إننا سوريون، ذواتنا السياسية سورية فحسب، والآخر في السياسة هو غير السوري. وهذا تعريفٌ أثبت قوته الاجتماعية، وأكثر مكانٍ يدرك فيه المرء معناه المدهش هو التظاهرة، لأن المتظاهرين يتكاثفون به، ويتعاضدون، ويتجاسرون، ويتذاوتون، ويتعاونون، وبينون ثقةَ بعضهم ببعض بالاستناد إليه فحسب؛ وهذا غير الراحة والعصبية التي ترتبط بعروبةٍ، أو كُريدة، أو طائفةٍ، أو مذهب. أما "الذات" التي في "الإدارة الذاتيَّة" فهي مسألة لم تُحدّد سياسيًا بعد لأنها لم تحدد دستوريًا من السوريين جميعهم. ومن حقنا جميعًا أن نسأل من هي هذه الذات التي تودّ أن "تدير نفسها"، ومن هو الآخر بالنسبة إليها. ولو لجأنا إلى الثقافة في تفسير هذه الذات، كما يحب أن يلجأ بعضهم إلى مقولة "الثقافة الكردية"، أو "الثقافة الدرزية"، لتجنّب البعد الإثني المعروف خطًأ بـ"القومي"، أو البعد الطائفي (الدرزي) في حالة السويداء؛ فإننا بالضرورة ننكر حقيقة جوهرية في الديمقراطية، وفي الوطنية، ومن ثم في نظام رفاه الإنسان ومصلحته، وهي أن الثقافات، مع أنها مُحترمة، وقد تمتلك ما يكفي معتنقيها من الغِنى المعنوي والتراثي، إلا أنها لا يمكن أن تعبّر عن ذاتها سياسيًا ببعدها الإثني والطائفي، من دون أن تكون وسيلةً للوصول إلى غايةٍ لا تمتلكها. أي بكلمة أخرى، إن من يقوم على مشروع تحديد الذات السياسية انطلاقًا من الإثنية أو الطائفة لا تعنيه الإثنية والطائفة إلا بوصفها وسيلةً لتحقيق غاياتٍ أخرى؛ فيحشُر الثقافة في فخّ المركزية التي للمفارقة أنه يناهضها. وهذا تناقضٌ لافتٌ جدًا، ويستحقّ الوقوف على ماهيته، ولذلك نعيد صياغة التناقض كالآتي: التعدّدية الثقافية، واللامركزية المعلنة في شعارات "الإدارة الذاتيَّة" هدفٌ رائع، ولا يمكن لعاقلٍ أن يكون ضدّه، ولكن بشرط أن يكون له منهجٌ لامركزي من جنسه، وإلا صار إشاعة. المنهج هو نقد المركزية في نمط التفكير السياسي على المستويات كافة؛ فلا يجوزُ أن تكون الثقافة الكردية في مركز "التفكير اللامركزي"! ولا الثقافة الدرزية، ولا أي ثقافة أخرى، لأنه تفكيرٌ يقوم على نقد المركزية أصلًا.
قد يبدو أن الثقافات في سورية لا وجود لها بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولكن ثمة أنساق وجود لا يزدهر أيٌ منها إلا داخل نطاق الوطنية السورية
هذا، ونحن لم نصل بعد إلى أن "مسد" تجمع شعار اللامركزية مع مركزية القرار الاستراتيجي في جبال قنديل، حيث قيادة حزب العمال الكردستاني، من دون أي حرجٍ سياسي أو معرفي، ومن دون توقّع إشارات تعجب يضعها باقي السوريين الذين صاروا في دائرة الآخر، وصارت "قنديل" في دائرة الذات! أيضًا، إن الذين يطالبون بتوزيع السلطة والثروة محقّون من حيث المبدأ، ولكن ما الذي ينبغي توزيعه؟ ومع من؟ ولمن؟ توزيع سلطةٍ وثروةٍ لا يمتلكهما أيٌ مِنَّا أصلًا، موزعةٍ بين النظام والفصائلِ ودول كثيرة، على طوائفٍ وإثنياتٍ وقبائل وعصبيات! ألا يؤدّي ذلك إلى هذيانٍ هُووي، وبناء مدارس الضغينة، ومن ثم فتح باب العنف على مصراعيه؟! الانكفاء إلى قوقعة الذات وصفة عنفٍ لا ينتهي، وقد يبدو أن الثقافات في سورية لا وجود لها بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولكن ثمة أنساق وجود لا يزدهر أيٌ منها إلا داخل نطاق الوطنية السورية. ولا ينبغي الاستسلام للحالة الجماعية العصبية الجارفة التي تبحث عن السياسة في دائرة راحتها، فتفكّر في قُوتِها وسلاحها غدًا، وقد تحصل عليه بمالِ "قنديل" و"مسد" وغيرها، ولكنَّها تُهيئ لأبنائها كفنًا بعد الغد؛ فلا أمان إلا في "الشعب السوري واحد". قد يكون ثمّة طريقة للقول لأهل السويداء: كم رائعة وقفاتكم، وجميلةٌ ساحاتكم، وراقيةٌ سلميَّتُكم؛ ولكن في الوقت نفسه، كم كبيرٌ حجم المسؤولية الأخلاقية التي بين أيديكم عن كلِّ قطرة دمٍ من دماء أبنائكم الذين سيقضون في حروبٍ هوويةٍ إذا تحوّلت الدرزية إلى ذاتٍ سياسية من أجل مشكلة الإدارة المستعصية: كمن يستجير من الرمضاء بالنار. وأيضًا، ثمّة من يُشرعن للموضوع مستقويًا بفكرة دعم الولايات المتحدة الإدارة الذاتيَّة ومُنظرًا للواقعية السياسية، ولهؤلاء نترك سؤالًا ليقلِّبوه في رؤوسهم: ما مصير دعم الولايات المتحدة "مسد"، لو أن الأولى توصلت إلى اتفاقٍ شاملٍ مع تركيا على معظم الملفّات العالقة؟ لن تضحي أميركا بعلاقتها مع تركيا من أجل "مسد" ولا "قسد". وأخيرًا، وبتكثيفٍ شديد: الذات التي يحقّ لها القول إنها تمتلك "إدارة ذاتية" هي الذات الدستورية فحسب، يعني يقرّر الشعب وجودها ليسهل على نفسه إدارة نفسِه وتكريس حكمه، وليس لها أي بعدٍ يحيل على العصبية أو الطائفية أو الإثنية.