أين يبدأ الشرق وأين ينتهي الغرب؟ في سياق الإجابة على هذا السؤال، وإظهار أن الحدود بين ضفّتي المتوسط لم تكن يوماً مغلقة، على مرّ التاريخ، يندرج معرض "إمبراطورية السلطان ــ العالم العثماني في فن النهضة" المستمر في "متحف بوزار" في بروكسل حتى نهاية أيار/ مايو 2015.
معرضٌ بطبقات متعددة، يفجّر، بمحتوياته وطريقة ترتيبها، النظرة المقولبة، كاشفاً معطيات ثمينة وضرورية للنقاش المفتوح حول طبيعة علاقات الشرق والغرب التاريخية. فصحيح أن السلطنة العثمانية جسّدت لفترةٍ طويلة "الآخر" المختلف، والعدو، في نظر أوروبا، والعكس صحيحٌ أيضاً؛ لكن العثمانيين والأوروبيين لم يكونوا فقط أعداءً "بالوراثة". فبينهما، كانت هناك حركة دائمة للأفكار والسلع وخصوصاً الأشخاص ـ تجّار، حجّاج، رحّالة، دبلوماسيين، جنود، سجناء حرب.
عددٌ من هؤلاء الأشخاص كان يعود إلى بلده بقصصٍ مختلفة عن "الآخر"؛ قصص اختلطت فيها الأحداث الحقيقية بأخرى من صنع الخيال، وغذّت صورة "التركي" في مخيّلة الأوروبي. ومع مجيء عصر النهضة الأوروبية، ساهمت كتابات وأعمال المفكّرين والأدباء والفنانين في فهمٍ أعمق لهذا "الآخر".
ولفهم الحوار، أو بالأحرى ضعف الحوار اليوم بين شرقٍ وغربٍ، لا بد من الإمساك جيداً بقصص الماضي وأثرها الاجتماعي والسياسي والسيكولوجي. من هنا أهمية معرض "إمبراطورية السلطان" الذي يساعد زائره الأوروبي، وأيضاً الشرقي، على استعادة هذه القصص وإعادة النظر ليس فقط بـ"الآخر"، بل بنظرتنا الخاصة له أيضاً.
وفي هذا السياق، يعكس حجم الأعمال المعروضة وتنوّعها غنى ومدى تعقيد العلاقات بين الأوروبيين والعثمانيين. أعمالٌ تتراوح بين أقمشة ملكية وخزفيات ولوحات ومنحوتات ومحفورات وتحف فنية وخرائط ومخطوطات نفيسة ونقود وخوذات وأسلحة وأقنعة وسجّاد فاخر، وتغطّي المرحلة الممتدة بين عامَي 1420 و1620.
طبعاً شهدنا في الماضي مشاريع ثقافية كثيرة حول علاقات أوروبا والسلطنة العثمانية، لكن معظمها تركّز على جانبٍ واحد من هذه العلاقات، يتعلّق بالنخبة الحاكمة أو الدينية. أما المعرض الحالي فيجمع أعمالاً لفنانين وحرفيين من ميادين وفضاءات ثقافية مختلفة، بما في ذلك بولونيا والمجر، كاشفاً أن صورة العثمانيين في أوروبا، وإن تخللتها الكليشيهات والأحكام المسبقة، تعكس أيضاً فضولاً واهتماماً كبيرَين.
من جهة أخرى، ما زالت تتركّز عملية التأريخ الرسمية في تركيا للمرحلة العثمانية على الحروب والانتصارات، ولا تتناول الأفراد والمواطنين إلا نادراً. وحين يحصل ذلك، يتعلّق الأمر بالسلطان أو بأفراد حاشيته أو ببعض وجوه حريمه.
أما المعرض الحالي فيفتح نوافذ على حياة الناس العاديين، مسلّطاً الضوء على الحياة اليومية وعلى الطريقة التي عاشت الشعوب المختلفة فيها مراحل التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها السلطنة العثمانية.
لكن ما يمكن أن نلوم منظّمي المعرض عليه هو عدم أخذهم في عين الاعتبار أن الإمبراطورية العثمانية كانت كياناً متعدد الإثنيات واللغات والأديان، وبالتالي تركيزهم، من خلال الأعمال المعروضة، على العلاقات بين الشرق المسلم وأوروبا المسيحية حصراً، وتناسيهم أن ثمة أقليات دينية وإثنية، من جهتَيّ حوض المتوسط، كانت تشكّل جزءاً مهماً من تاريخ المنطقتين، وكان لها دورٌ كبير في تطوّر العلاقات بين أوروبا والسلطنة العثمانية.
وثمة صوتٌ آخر، غير صوت الأقليات، أهمله منظّمو المعرض أيضاً، ونقصد صوت المرأة من جانبَي المتوسط. فحين نسعى إلى نبش قصص الماضي، علينا كشف صمت التأريخ الرسمي وسد ثغراته، عبر البحث عن صوت مَن كانوا بلا صوت.