"أوقفوا المجزرة" بالنمسا: شاحنة الموت تفتح عيون الأوروبيين وأبوابهم

04 سبتمبر 2015
توحّدت النمسا لمصلحة اللاجئين (كريستوف ستاش/فرانس برس)
+ الخط -
في السادسة من مساء اليوم الأخير من شهر أغسطس/آب الماضي، كانت العاصمة النمساوية فيينا، وعلى اختلاف مكوّناتها الإثنية، تحتشد على مقربة من محطة قطاراتها المركزية الشهيرة "فيست بانهوف"، لتبدأ مسيرتها التي ستأخذها عبر الشارع التجاري الطويل "ماريا هيلفر" إلى ساحة الأبطال في الحي الأول، للتجمّع على مقربة من مبنى المستشارية، وتعلن بصوت واحد: "لا وجود لإنسان غير شرعي"، و"افتحوا الحدود الآن.. أنقذوا الضحايا". إلى جانب الشعارات الأخرى التي اتفقت في مجملها على حقيقة واحدة: "لن نقبل بالجريمة بعد اليوم ولن نصمت".

وحّد المتظاهرون في فيينا صوتهم، ورفعوه في وجه الجريمة الكبيرة التي تمثلت على نحو مفاجئ وفاجع، يوم 28 أغسطس، حين عثرت الشرطة النمساوية على شاحنة التبريد المحمّلة بـ71 جثة للاجئين. أدى هذا اليوم الأسود من أغسطس دوراً مفصلياً في المعنى وفي التأثير، في الوعي الجماعي للسكان في هذه المنطقة الهادئة من القارة الأوروبية، وترك جرحاً بليغاً لن يندمل بسهولةٍ ويُسرٍ، لا اليوم ولا الغد على الأغلب. وما فعلته الجريمة عند هؤلاء الناس هو الاشارة، التي بقيت لسنوات طويلة غائبة، إلى الجريمة الأم. تلك التي حملت ضحايا الشاحنة على ركوبها، والمغامرة بحيواتهم، سعياً خلف حرية مشتهاة وعيش من دون قَتَلَة وبراميل متفجرة وتعاويذ ترفع السيوف وتُنصب المشانق.

هذه الإشارة هي التي دفعت الحشود إلى الشارع (بين 30 و40 ألف متظاهر). وهي الإشارة التي ارتفع فيها شعار "أوقفوا المجزرة". وهي التي ستفتح باب الحوار، بل الاحتجاج، على مصراعيه في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي في النمسا، كما في وسائل الإعلام. الإشارة عينها حرّكت الجلسات الطارئة للدولة والبرلمان ومجالس الأحزاب الصغيرة والكبيرة في النمسا، بعنوانٍ واحد "لا ترتكبوا الجرائم باسمنا".

تكفّلت فاجعة الشاحنة من فتح الباب الموصد، الذي لم تتمكن المقالات القليلة في الصحف، ولا التقارير الخجولة، على امتداد سنوات الجمر السورية الأخيرة، ومن فتحه، ولا تمكنت من ذلك أخبار الموت المريع في عرض المتوسط، ولا صور أولئك الذين تمكنوا سابقاً من عبور الحدود إلى النمسا.

لم تتمكن كل تلك الأخبار من توجيه اهتمام الناس، ووعيهم إلى حقيقة أن مذبحة متواصلة لا تزال تدور وقائعها الوحشية في مكان ما، على هذه الأرض، وأن العمل على إيقافها، أو مساعدة ضحاياها، على الأقلّ، هو من صلب فكرة التضامن الفعلي بين البشر. وحدها فاجعة الشاحنة فعلت ذلك.

اقرأ أيضاً الطفل السوري الغريق: "إنسانيتنا الراقدة على الشاطئ" 

لعلّ الإيمان الجدّي بهذه الحقيقة الأخيرة، هو الذي دفع الرئيس النمساوي هاينز فيشر، في خطاب جارح، للقول إننا "لسنا وحدنا على هذا الكوكب. هناك من يموت كي يعيش مثلنا، فحفاظنا على حريّتنا، يكمن في القدرة على حماية هؤلاء الناس وضمان حقهم بعيش كريم بيننا".

لم تبتعد كلمات الرئيس كثيراً عن المعنى الذي حملته كلمات المستشار فيرنر فايمان: "لا يستطيع المرء أن يعبّر بالكلمات وحدها، عن هذا الشقاء الذي يحيط بنا من كل جانب". مع العلم أن أسقف مدينة فيينا الكاردينال كريستوف شينبورن، قد سبق الجميع أثناء إقامته قداساً على أرواح الضحايا، حين حذّر القيادة السياسية في البلاد، وفي دول الاتحاد الأوروبي عموماً، قائلاً "تأخرتم كثيراً، وعليكم الآن العمل والتحرك بسرعة من دون مبررات، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح هؤلاء الناس".

وازداد وفقاً لهذه النبرة، عديد الشخصيات السياسية والثقافية، التي أعلنت عن تضامنها مع مأساة اللاجئين وتبعاتها الإنسانية العالية، وبدأت تنشر مواقفها في أعمدة الصحف اليومية، من الصحف التي توزع مجاناً في المترو، مثل "اليوم" و"النمسا"، إلى الصحف الجادة، من طراز "دير ستاندارد" و"دي بريسه". ناهيك عن المهرجانات الموسيقية والحفلات والندوات، التي تُعقد يومياً في مختلف أنحاء البلاد رافعة شعار: "نرحّب بكم".

بات التضامن حالة عامة وغير مسبوقة تجتاح البلاد من شرقها إلى غربها، وخصوصاً أن لا أحد يمانع هذه الحالة، ولا تظهر أي آراء من هنا أو هناك، لتضرب فكرتها الأساس: دعم اللاجئين. كما تغيب المواقف الناقدة أو المشككة، على شاكلة المواقف التي اعتاد حزب "الأحرار" اليميني المتطرف اختراعها والتغنّي بها، كـ"حماية الوطن من الغرباء". وكان زعيم الحزب كريستيان شتراخه قد تناغم، هو الآخر، مع الحالة السائدة. وكتب على صفحته في موقع "فيسبوك": "لدينا مرجعيات أخلاقية أيضاً".

عكس كل ذلك حالة غير مسبوقة من التعاطف النمساوي مع اللاجئين، لأن الذاكرة الجماعية للبلاد لا تحتفظ بفظائع شبيهة بهذه الكارثة، التي مثلتها وعكستها تراجيديا الشاحنة. وسبق للنمسا أن مرّت عبر تاريخها الحديث بتجاربٍ وضعتها وجهاً لوجه أمام مآسي اللجوء وتداعياته القاسية، كانتفاضة المجر في عام 1956، وربيع براغ (عاصمة تشيكيا الحالية وتشيكوسلوفاكيا سابقاً) في عام 1968، وحرب البلقان في تسعينات القرن الماضي.

لم تُرغم تلك الكوارث كل هذه الأعداد الهائلة من البشر على النزوح، كما هو الحال الآن مع نتائج المأساة السورية، ولم يترك كل ضحايا النزاعات السالفة أوطانهم هرباً من أشباح الموت الأكيد، كما يفعل السوريون. ولم توثر أي مأساة بالنمساويين كما فعلت شاحنة الضحايا تلك.

تجسدت صورة 71 إنساناً، بينهم أربعة أطفال، دفعة واحدة أمام الجمهور النمساوي. لم تعد الشاحنة مجرد خبر عابر في نشرة الأخبار أو زوايا الصحف. صارت هنا، على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة فيينا. وعلى مسافة أقل من بورغينلاند المحاذية للحدود المجرية. لم تعد ضحية عالم بعيد ولا مجرّد نبأ في وسائل الإعلام.

واستولدت الشاحنة حالة قصوى من التضامن الإنساني الرفيع. هذا التضامن الذي تغرق البلاد الآن في اقتراحاته وتجلياته الثمينة، ولا تود تلافيه أو الابتعاد عنه. وقد عبّرت إحدى المتظاهرات عن ذلك خير تعبير، حين قالت لصديقها بصوتٍ مسموع: "لا يجدر بنا انتظار كارثة أخرى لنخرج بعدها إلى الشارع. يجب أن نعود دائماً، وألا نعتبر ما نقوم به الآن عابراً ومؤقتاً، كي لا تعود تلك الجرائم من جديد، وتختفي إلى الأبد". 

لا تودّ النمسا انسجاماً مع الحالة التي تعكس حجم الكارثة، أن تعود إلى صمتها السابق وحيادها البارد حيال الضحايا، بل تريد مواصلة المعركة والمضي بها قدماً، إلى تلك الحدود التي يريدها شعبها، إلى حدود تجفيف المنابع الأولى التي ترغم الناس على ترك بيوتهم وأوطانهم، المنابع القبيحة لهذه المأساة.

اقرأ أيضاً محتجزون سوريون في التشيك لـ"العربي الجديد": أغيثونا

المساهمون