"أوبريت مصر قريبة": نغنّي لمن يدفع أكثر

03 مارس 2015
+ الخط -

حين يتأمّل المتابع ما أفرزه النظام الحاكم في مصر بعد 30 يوينو من أعمال غنائية جماهيرية، يلحظ الانعكاس المباشر للقرار السياسي - العسكري في البلد على الإنتاجات الفنية المدعومة من أجهزة الدولة العميقة.

فلو اعتبرنا أغنية "تسلم الأيادي" شرعنة فنيّة لقتل الأبرياء ومكافأة لسفك الدماء، وأغنية "بشرة خير" رقصاً هستيرياً لانتصار الثورة المضادة، ودعاية لانتخاب السيسي آنذاك، سيسهل جداً ضمن الأجواء الكارثية الراهنة في مصر، النظر إلى ما أطلق منذ أيّام تحت مسمّى "أوبريت مصر قريبة" على أنّه التجسيد الفني للعجز الاقتصادي والسياسي الذي أتى به النظام المنقلب على ثورة المصريين.

بداية، لم تكن عنونة هذا العمل الغنائي على أنّه "أوبريت" سوى ابتزاز ومتاجرة لفظيّة تدغدغ الوجدان المصري والعربيّ العام، لما تثيره هذه الكلمة من تداعيات للأغاني الجماعية التي أنتجت في عهد عبد الناصر. أغان، رغم أنها كانت دعائية للنظام، حملت فكراً عروبيّاً، وأشهرها "عاش الجيل الصاعد" و"وطني حبيبي"، وكانت ذات طابع أوركسترالي مهيب استحق تسمية "أوبريت".

لكن ما نراه في "مصر قريبة" ليس إلّا كليباً سياحيّاً بامتياز، لا يمت بأي صلة لما هو معروف على أنّه أوبريت. ويكمن الاختلاف الجوهري بين هذا العمل وما قُدّم في الحقبة الناصرية، في غياب البعد العربي الجامع، وحضور الشخصية الخليجيّة بشكل استثنائي. إذ تُستقبل هذه الأخيرة في المطارات والمقاهي، وكأننا أمام مشهد سبعينيّ ساداتيّ، حين ابتدأت موجة قدوم الخليجيين إلى مصر إبّان الانفتاح الاقتصادي منتصف السبعينيات للسياحة الجنسية.

إلّا أنّ هذه المرّة تحضر الحطّة والعقال الخليجيين في الكليب السياحي، توافقاً مع سياسة "التسوّل" التي يقودها السيسي متباهياً، كأداة وحيدة للنهوض بالاقتصاد المصري، في غياب لمشاريع التنمية، ومع تزامن لسحق حريّات التعبير وسجن شباب الثورة، وإقحام شعار "الحرب على الإرهاب" في كلّ فرصة سانحة، من قبل نظام يتسوّل الأموال من أكثر الأنظمة دعماً للتطرّف الدينيّ في العالم العربي.

يستهلّ الأغنية مشهد رجل خليجيّ وصل إلى مطار القاهرة، يستقبله الفنان محمد منير مرحّباً به وينتقل بعدها ليستقلّ سيارة أجرة خاصّة، يقودها بكثير من المفارقة الممثّل لطفي لبيب الذي يبتسم بنظرته الشقيّة التي لا تخلو من "الفهلوة"، في تقاطع مع شخصيته التي أدّاها في شريط "عسل أسود" لسائق تاكسي مخادع يسيء التعامل مع المواطن المصري ويبتزّه حين يعلم أنّه أميركيّ الجنسية.

أمّا الكارثة الأكبر في الكليب والتي أزعجت عدداً لا بأس به من المصريين، والمصريات على وجه التحديد، هو ذلك المشهد الذي يقف فيه الرجل الخليجي على الكورنيش (وحيداً بدون بدون عائلته كما وصل المطار) وتتّجه نحوه بعزم، فتاة (غادة عادل) تحمل سلّة من الورد، مقدّمة له وردة حمراء مع نظرة فيها من الخجل ما ينقلب عليها، إذ يصعب تحييد الإيحاء الجنسيّ المبطّن في مشهد كهذا، يختصر مجازيّاً الكثير من علاقة مصر بالخليج في الوقت الراهن.

وفي إهانة متبادلة تقلّل من شأن مصر والخليج معاً، يستدعى فقط فنانون خليجيون للاشتراك في العمل الغنائي، وكأن النوايا المعلنة أتت على النحو التالي: نحن نغنّي لمن يدفع أكثر، ونشركه معنا في الغناء، في استبعاد لأي مطرب عربيّ غير خليجي في ظاهرة جديدة تصلح تسميتها "العصبيّة الانتفاعية". ذلك على العكس مما قدّم من أغانٍ جماعية في العقدين الأخيرين، وإن كانت تمثيلاً للعقم العربي ("الحلم العربي"، "الأمل العربي") إلّا أنها على الأقل لم تخلق هذه الحالة الشرائحيّة على مستوى التنفيذ الفنّي.

وتبقى أكثر حالات الشيزوفرينيا التي تسبّب بها معظم فنانو مصر والعالم العربي الداعمين للأنظمة المنقلبة على الثورات، هي تلك التي تصفعنا بها أصوات فذّة كأنغام ومحمد منير، الأصوات الأجمل على الساحة المصرية لعقود، حفرت لدى مستمعيها ولاءً لأخلاقيّتها، وقد نكون قد حمّلناها أكثر ممّا عليها أن تتحمّل، وتحديداً "الكينغ" منير.

إذ يبدو ضرباً من ضروب الجنون أنّ من غنّى "حدّوته مصرية"، و"علي صوتك بالغنا"، و"بعد الطوفان" وغيرها من الأغاني الثوريّة في مضامينها، أن يكون هو أوّل من يستقبل الزائر الخليجي (القادم بدون عائلته) في المطار في هذا السياق المتسوّل للأغنية، من دون إنكار جمال المقاطع التي أدّاها وبراعته في خلق الألفة مع صوته كلّ مرّة من جديد، رغم التشويه الفظيع لصورته في الأذهان خاصّة لدى جيل الشباب الثوري.

"مصر قريبة" تثبت كم هو مغرق النظام الحاكم في تلميع صورة "مصر السيسي" في الإعلام المتواطئ مع كل خطايا النظام، والتأكيد الأبله كلّ مرّة، من قبل الشخصيات الفنيّة والسياسية، على دور "القوة الناعمة" في تسويق مصر للعالم العربي، غافلين أن قوة كهذه تأتي من نظام مستقرّ سياسياً ويحمل مشروعاً حقيقياً يحقّق المطالب الجماهيرية بالحرية والعدالة الاجتماعية. من دون ذلك، ستختزل النعومة وقوّتها في مشهد فتاة تقدّم الورد لسائح من الخليج.

المساهمون