أمام فندق "الوطني" في شارع الزهرة قابلت صديقتي ياسمين التي تزور فلسطين لأوّل مرّةٍ، كي تشاهد عن قربٍ وطن جدّتها لأُمّها. عبرت الحدود بجوازها الأميركيّ، فأنكرت أصلها الفلسطينيّ حين سألها الجنديّ المراهق بعد أن أخبرته بأنّها أردنيّة سوريّة إن كانت هنا في "أرضه" الجديدة كي تطالب بإرث أجدادها، مؤكدةً له بأنّها هنا كي تصلّي فقط.
كانت السّاعة قد اقتربت من العاشرة، وكانت ياسمين التي ترتدي الكوفيّة الفلسطينيّة شعلة نشاطٍ فرغبت -رغم تعب السّفر- في السّير في ليل القدس. والقدس لمن لا يعرفها، مدينة أشباحٍ في الليل، لا تعرف السّهر في أيّ فصولها، تغرب الشمس عنها قبل غيرها، لذلك رحبتُ بفكرة التجول فيها، كي يحجب الليل قليلًا بؤس حاضرها المحتل.
عبرنا في البداية شارع صلاح الدين، متجهين نحو باب العامود، الذي أخبرتها أنّ اسمه أيضًا باب دمشق، حيث كانت السّيارات تحمل المسافرين إلى "الشّام"، فشعرت صديقتي بالتّأثر إذ تعمل في برامج الصّحة النفسيّة الخاصّة باللاجئين السّوريين. كما أخبرتها عن القنبلة التي فجّرتها عصابات "الإرغون" فيه على مرأى "الانتداب" البريطانيّ، وعن محاولات تهويده المستمرة وكيف "رمموه" كي يصير شاشة عرضٍ ضخمةٍ لأنوار الاحتلال التي تعيد كتابة تاريخ الظلام، ولكي يحطموا رمزيّة الباب التي يدخل منه المحررون كي يطردوا الغزاة الداخلين من باب الخليل.
كانت البلدة القديمة الفارغة من المشاة توحي بجمالٍ جليلٍ تحت أنوار المصابيح الصفراء، جمالٍ يشبه التّحديق مرتعشًا في هاويةٍ صخريّةٍ زرقاء. مشينا في السّوق المغلق، وركض قربنا سكّان المدينة السفليّة من الجرذان و"العِرَس" التي استيقظت لتوّها. وفي الطّريق قصّت عليّ صديقتي قصصها مع الأطفال اللاجئين، العالقين في اليونان، والمصاب أكثرهم بالصّرع، ومحاولات العديد منهم الانتحار بالأدويّة المقدمة إليهم.
كانت صديقتي مبهورةً بالتّجول لأوّل مرةٍ في البلدة القديمة، فشعرت بالغيظ من استمتاعها المحايد، فقلت لها إنني لا أحبّ القدس، أشعر أنّها مدينةٌ ملعونةٌ بقدسيّتها، لا أشعر بالانتماء فيها سوى لطفولتي... لكنني أنتمي لها أخلاقيًّا، ففلسطين بالنّسبة إليّ قضيّةٌ أخلاقيّةٌ قبل كلّ شيءٍ، والأخلاق هي التي تجعلنا بشرًا في النّهاية.
وبعد أن عبرنا باب الخليل، وقفنا على الجسر المطلّ على الشّارع المؤدي إلى "غربي" القدس، إلى دور السينما و"حديقة الجرس" وسكّة الحجاز قرب البيوت العربيّة القديمة المهجّر أهلها، حيث يركض الغزاة وكلابهم الأليفة مكان القطار، وحيث حولوا إحدى مباني المحطّة إلى دورة مياه مزيّنة جدرانها بصورٍ تحبس مشاهد أقدم من وعد بلفور. أريتها مجمع "ماميلا" التّجاريّ القائم فوق مقبرة مأمن الله، ناسيًا "القشلة" خلفي، التي يسمونها كذباً "قلعة داوود". ثمّ مشينا في الطرّيق المحاذي للسور باتجاه باب الجديد، تتبعنا موجة مستوطنين منتشين بعصرهم الذهبيّ، قادمين من التّعبد ليهوه أمام حائط البراق. وحين أصبحنا وصديقتي المزيّنة بالكوفيّة في قلب الموجة، غيّرت متعمدًا لغة الكلام من الإنكليزيّة إلى عربيّةٍ صاخبةٍ في صمت الملح، فانحسرت الموجة عنّا عائدةً إلى هديرها الذي لا يملّ تخويف فراخ السّمك.
أمام باب العامود، متجهين نحو الفندق من جديد، أخبرتني صديقتي قصّة جدّتها: "كان عمرها 17 عشر عامًا. تعيش مع أشقائها الكثر في إحدى مناطق فلسطين التي لم أعرف اسمها. كان والدها رجل دينٍ، لكنّه كان يؤمن بحريّة أبنائه جميعًا. وفي أحد الأيام وبينما كانت تحادث صديقاتها، أخبرنها بشغفٍ عن جارٍ وسيمٍ عائدٍ من بريطانيا التي يدرس فيها الطّب، فصممت جدّتي على لقاء العائد الغامض، طالبةً من أُمّها تدبير لقاءٍ معه، فرتبت الأُمّان اللقاء معًا. لم يكن الشّاب العائدُ راغبًا في الزّواج من نساء وطنه، لكنّ الأُمّ اللّحوحة أقنعته بلقائها، فاتفقا أن يقوم الشّاب باستراق النّظر إلى الفتاة القادمة مع أُمّها، ليخرج بملابس النّوم إن لم تعجبه، وبملابسه العاديّة إن أحبها. وفي يوم اللقاء، وبعد استراق النّظر، تأخر الشّاب بالخروج فشعرن بالقلق، وحين خرج لمقابلتها كان يرتدي بدلته التي لا يرتديها إلّا في أهمّ المناسبات، فقد سلب جمالها عقل الشّاب الضائع في شقار أُوروبا. وبعد أن تحدث العاشقان لساعتين، قرّرا الزّواج بأسرع وقت ممكن".
أمام الفندق، أخبرتني صديقتي أنّها ستكمل القصّة حين سنلتقي غدًا، بعد أن اتّفقنا على الذّهاب لرؤية بحر يافا.
■ ■ ■
عصرًا، في السّيارة انتظرتُ صديقتي العائدة من الصّلاة في الأقصى لنذهب إلى يافا. أكملتْ قصّة جدّتها التي كنت متشوقًا لسماعها: "بعد الزّواج انتقل الشّابان إلى بريطانيا كي يكمل العريس دراسته للطب. تركت جدّتي مدرستها كي تكون مع زوجها. أنجبت طفلها الأول هناك، لكنّ الطّالب الشّاب لم يبلِ جيّدًا، راسبًا في بعض مواده، فغضبت عليه زوجته وأخذت طفلها معها عائدةً إلى فلسطين، ثمّ إلى الأردن بعد وقوع النّكبة. ويبدو أنّ خطّتها قد نجحت فشوقه جعله ينجح سريعًا، فانضم إليها في الأردن حيث عمل طبيبًا هناك...".
قاطعتُ القصّة مقترحًا على صديقتي النّزول إلى متنزهٍ على الطريق بين يافا والقدس. كان المتنزه يُدعى "كندا بارك"، مقامٌ في اللّطرون -بتمويلٍ من يهود كندا- على أراضي عمواس ويالو وبيت نوبا، القرى التي طُهّرت من أهلها عام 1967. جلسنا على صخرتين ناظرين إلى شواهد قبور الجنود الأردنيين الذين عثر على حجارتها المطمورة بالتّراب الباحث المقدسيّ طارق البكري، المحفور عليها أسماؤهم وأرقامهم ورتبهم. حكيت لها قصّة الجنديّ الذي لم يكن يعرف أهله مكان دفنه في فلسطين، الشّاب الذي طلب من والده الزّواج فأخبره أنّه سيزوجه بعد عودته من نصر فلسطين، فيكون العرس عرسين. ثمّ بعد ذلك جلسنا واجميْن، مخفّفيْن الوطء كي لا نوجع عظام شهداء باب الواد.
قطع خشوعنا عبور طائرة "العال" متّجهةً نحو مطار اللّد (يسمونه كذباً "بن غوريون")، فتخيلت نفسي أضربها بحجرٍ أحمرٍ فتتهاوى على الواجهة الزّجاجيّة للمطار. لكنّ الذي لم أتخيله هو أنين الشّهداء المعذبين كأنكيدو في عالمه السفليّ القاحل، الذي جعلنا نهرب إلى بحر يافا كي نغسل التّاريخ عن جلدينا.
أكملتْ القصّة في الطّريق:
"في عيد الاستقلال الأردنيّ، وبينما كان موكب الملك يجول الشّوارع، مشى جدّي مع النّاس المحتفلين. فجأةً بدأ يتصرف بغرابةٍ شديدةٍ، مما جعل حرّاس الموكب يشكّون به قافزين عليه، دون أن يعرفوا أنّه كان يقاوم أنياب ذبحةٍ صدريّةٍ، فمات تحت أجسادهم تاركًا زوجته الشّابة البالغة من العمر 26 عامًا مع ثلاثة أطفالٍ، بلا شهادةٍ تستطيع بها إعالة أطفالها...".
كانت يافا تحاذي "تل أبيب" التي لا تزال تقصفها منذ النّكبة. وضعنا قدمينا في الماء فشعرنا بصاعقةٍ من ثلجٍ حفرت عظامنا، ففي تلك اللّحظة -كما سنعرف لاحقًا- غرق مركب لاجئين في المتوسط قرب السّواحل اليونانيّة.
عدنا إلى القدس. ذهبنا إلى "المطلّة" في الطّور التي تُشرف على البلدة القديمة المضاءة بأضواء قبّة الصّخرة. كانت قبور أعدائنا ترقد بسلامٍ قربنا، أردت أن أُخبرها أنّ الكثير من القبور فارغٌ لكنني آثرت أن نستمتع بلحظةٍ إنسانيّةٍ نحاول فيها تأمل المكان منتزعًا من "الزمكان"، لكنني لم أستطع الصّمت فسألتها: "وماذا حصل لجدّتك بعد ذلك؟"
* كاتب فلسطيني من القدس المحتلة