ما زلتُ ممدّداً في فراشي الفاسي الصوفي الوثير، سمعتُ صوت مغنٍّ في أسفل الوادي تحمله الصبا فانتشيت وفتحت عيني. هؤلاء الرعاة لا يعكّر صفو حياتهم شيء، تمتمت وحملت الفوط نحو الزليج الرخامي. مراكش تلك تدلّلنا قمحاً وصوفاً وزليجاً وأشياء كثيرة أخرى، لن أبقى حياتي كلّها في هذا الوادي سأسافر لأرى فاس وأغمات، وأسمع حلقات الدرس التي وهبتنا كتاب أعز ما يطلب، يا إلهي كيف لداعية ينتبه إلى أهمية العودة إلى التأويل وضرورة ترك القشور، لقد تلمّس هذا السياسي عمق الأشياء كلها، بالتأويل وبه وحده تحيى الأشياء.
تلمّس المنهج القويم لتشغيل العقل على الشريعة التي يصيبها مرض انغلاق النصوص كلما أصبحت درساً يُلقّن ويُحفظ، ليس هذا عندنا فحسب بل في كل مكان يضطر الفقهاء للانغلاق معيارية ولأسباب دنيوية أخرى. على القاضي أن يفتح عينيه وأن يخرج من المنبر والمقصورات نحو المزارع والأودية والمكتبات، آه كدت أنسى، اليوم سأستقبل قافلة الغرب تحمل لي ما طلبت من كتب أرسطو.
من شرفة منزلي ومن حديقتي أستطيع أن أرى نصف المدينة والوادي ومزارع الزيتون، بل ويصلني صوت الساقية الكبرى التي توزّع الصغرى على الحقول والبساتين وحدائق الدور، ومن هنا أسمع أذان عشرات المآذن. قرطبة أميرة المدائن يغدق عليها الوادي الكبير فتجود قمحاً وزيتاً وفواكه، نخزّن جله ونبيع بعضه للمدائن الأخرى ونشتري ما نحتاج إليه لباساً وسكناً ومركباً وكتباً. لم يخطئ عبد الرحمن لما خطّ المدينة.
هؤلاء البستانيون عمليون تجريبيون، لا يتحدثون عن التربة الصالحة والبذور المختارة والسماد الجيد حتى يحصدوا ويجنوا ولسنوات. على المدرّسين والعلماء أن يأخذوا العبرة من المزارعين، بل وغير المزارعين من صنّاع ومن يشتغلون بالعين والأيدي وربما بالأذن.
القواعد تأتي في الأخير؛ وتأمّل العمل يأتي بعد إنجازه؛ وتنظيم العلم وشرحه ووضع الكراسات للتلاميذ عملية بعدية وليست قبلية، وإلا نكون كمن يضع المحراث قبل البهيمة. هذا الوادي العظيم لا يسقي الأرض فحسب، بل ويسقي العقول أيضاً. أما انشغال الناس بمآربهم فأمر عادي لما نتأمل صناعة الخيرات، غير المنتجين يخافون من بوار سلعهم فيتشددون. أنزل الآن من الدرج الرخامي أشاهد القافلة الصغيرة وقد وصلت، ثلاث أُتُن وبغل، سيكون زادي في القراءة وفيراً هذا الربيع.
استغرقت الربيع كله في التفكير في مسألة واحدة، هي علاقة الحكمة المرسلة العاقلة الراشدة النافعة كما أنتجها أفذاذ بني يونان على المشترك الإنساني في كل مكان، رغم عدم وصوله لنا كاملاً. اتصال هذا العقل الحر غير المقيّد مع الشريعة كضرورة فرضها الاجتماع في الأمة المسلمة المنتظمة بالشريعة وأوفاقها تعاقداً، وبقيم التوحيد والإيمان بالغيب عقيدة. وعدت القهقرى إلى القرآن؛ والحديث؛ وعلم الكلام؛ وفلاسفة الإسلام تمحيصاً وتدقيقاً، كما يفعل كل قاض في الحكم على قضية كبيرة تحتاج إلى التحرّي في القرائن حتى أوتي كل ذي حق حقه، سواء من أهل ملّتي أم من غير أهل ملّتي من العقلاء الذين تزخر بهم سوق العلم القرطبية من يهود ومسيحيين، حتى لا أكون عرضة لسخرية أهل الألباب. ومر الربيع القرطبي سعيداً لا يعكر صفوه غير بعض حسد الأمراء، ثم مر الصيف حاراً ككل صيف أندلسي.
وفي الخريف جاءتني رسالة من ابن طفيل يدعوني فيها للرحلة إلى بلاد ياكوش رب الأمازيغ. فزعت في البداية وتوجّست خيفة ويدي على قلبي، وذكرى ابن باجة وما فعله به فقهاء المرابطين - لأنه فضل العقل كوسيلة لبلوغ السعادة فحسب - لا تزال قوية في كلام حلقات أهل قرطبة. وعند استشارتي لصديقي اليهودي ابن ميمون حذّرني من الأمر وأخبرني بمزاجية أهل مراكش وتقلّب أحوالهم. لكن ابن طفيل أصرّ، وفضولي لرؤية الجبال الشاهقة غلب على كل شيء، وأخبرت النساء والخدم بالرحيل.
فاجأتني بلاد البربر بشساعة أراضيها؛ وخلو معظمها من القرى والمدن؛ وبقلة أنهارها وضعف صبيبها. كما استغربت للمستوى البسيط لجلّ الساكنة واشتغال أغلبهم بالرعي والبحث عن الكلأ. وتساءلت كيف يمكن أن نجد عواصم كبرى مثل فاس ومراكش بهذا البلد الموحش والذي لا تخلو طرقه، والجبلية منها خاصة، من مخاطر السباع وقطّاع الطرق. مراكش بلد نصفه غابة والنصف الآخر قفر، وبقع هنا وهناك من ساكنة مقدامة وكريمة ولا تعدم الدهاء.
ذات صباح وقد مر بإقامتنا بمراكش شهر من الزمن عشناه في رغد نتنقل بين القصور يستضيفنا وزير تلو والٍ وقاضٍ تلو قائد، تارة في المدينة الفيحاء وأخرى في منازل فخمة حول أودية سحيقة يطلّ عليها جبل يسمونه هناك درن، وهو أعلى مما يتصوّر أي إنسان. بعدما مررنا بحديقة زيتون ورمان وورود تحفها ساقيتان من الجهتين الشمالية والجنوبية وتطلّ عليها صومعة حجرية زاهدة رائعة. عند البوابة المنقوشة، استقبلنا الحاجب وأمرنا بالتحية بالانحناء الخفيف ثلاث مرات، وأمر أن يجلس ابن طفيل على اليمين وأنا على اليسار.
عند الدخول ورائحة الياسمين تملأ المكان رأينا أبا يوسف يعقوب في قفطان جوخ ثقيل أحمر عليه رداء حرير خفيف أصفر يجلس على كرسي مذهب، إلى يمينه رجل ضخم الجثة كثّ اللحية، وإلى يساره شاب يكاد يكون طفلاً، لكن بوقار وصرامة غير مألوفة لمن في سنه، خلف الجميع يوجد منبر منقوش كبير يأسر الألباب جمالاً وفخامة.
جلسنا كل في مكانه كما طُلب منا، وبدأ ابن طفيل يسرد محاسني ومؤهلاتي؛ والعلوم التي أتقنها؛ والكتب التي ألفتها، وغير ذلك من المزايا. بعده مباشرة سألني الخليفة: "وما تقول في أمر السماء يا أبا الوليد؟ هل هي قديمة أم محدثة؟" وبقدر ما أسعدني السؤال لكون الرجل يلم بالفلسفة ومبحث الوجود بقدر خوفي من المقام، خاصة وأن صاحب اللحية تململ في مكانه كأنه يحاصرني. "لا علم لي بتلك الأمور حفظ الله مولانا، أنا قاض وفقيه يفتي وفق النصوص فحسب"، أردفت.
بعده ابتسم الرجل واستطرد في سرد مواقف الفلاسفة القدماء من اليونان والمسلمين والمحدثين حتى ظننتني بمعية مؤلف وليس رجل دولة يحكم العدوتين وما يجاورهما من الأقطار. "لا علينا، لقد أخبرني صاحبك بحذقك في التأليف وفي شرح كتب القدماء. أكتب لنا شيئاً من هذا فنحن بحاجة إليه"، أردف. بعده لم ندر ماذا وقع حتى سمعنا من حيث لا ندري: انصراف.
ونعمت برفقة الخليفة لشهور حتى بدأ صاحب اللحية الكثة ومن معه يستثقلون وجودي، والإيعاز إلى السلطان كلما رأوني بمعيته بضيق الوقت وبأولوية أمور الدولة والحرب والمعاش على الكتب والمؤلفين.
في الشتاء حل بي مغص شديد لا يبرحني، أسرّ لي طبيب القصر أني أكلت شيئاً لا يستسيغه بدني، ونصحني بالعودة إلى قرطبة، وكذلك كان. استطراد: وجدتْ هذه الورقة بين كتب ابن رشد بعد موته.
* كاتب من المغرب