الرعبُ لطّخ وجهي

23 يوليو 2016
تمّام عزّام/ سورية
+ الخط -

1
ظننتُ بأنك الوجد ــ وهذه النافذة مشرعة على آبار معطلة ــ أظن بأن هناك تغييرًا سيحدث. الكتابُ يأكل نفسه؛ والكلمات مكوّمة على بعضها وأنا الوحيد مكوّمًا على نفسي.

2
السؤال هو أن لا تطرح سؤالاً. أنت ــ أشير إلى الشخص الذي يجلس الآن بجانبك ــ تطالع الشمس في رأسك، كتابًا سقط في الماء ونشرناه على الجسر لكي ينشف.

3
البئر التي شاهدتُها للمرة الأولى، كانت تشبه أُذنًا لا تطيق عويل الويل.

4
يمكنني ــ وهذا سهلٌ جدًا ــ أن أضع مكان النوم حارسًا وسيمًا، أن أضع مكان السمع صياد الإوز، أن أضع مكان البلور حذاء يخاف منه اللصوص والهرر.
الوحدة نافذة مفتوحة على قيثار الحدائق.

5
لماذا شرعت النوافذ؛ ألم تعرف أن البستانيّ نائمٌ على خضرة الحدائق؛ والشجرة ــ أخت آدم ــ تحسدها تلك المغنية التي كانت لها علاقة جنسية مع ثعبان.

6
العقيد المتقاعد، رفيق التليفون الأرضي، الغاضب على الأطفال الصاخبين في الفناء المجاور وفي الشارع وغرفة الاستقبال، كتب أن يُدفن معه هذه التليفون.

7
خربشنا على زجاج النوافذ، مسحنا خطايانا اليابسة على الطاولة.
القطرة خطيئة والفواكه الممنوعة بلّوراتٌ نازلة عن جبين الحبيب؛ وتلك الكلمة التي انصرفت إلى الحنجرة، لم تعد تريد أن تخرج وتلقى في الأسماع؛ تخاف أن يعذّبها الناس في الشتائم والحبّ والحوار والحديث النفسي وفي الحرب وفي العراك الشخصي. تخاف الكلمة أن تتعين لتعذيب الناس؛ الكلمة خائفة، عندما ينطق بها الحاكم والمحكوم. الكلمة ما عادت تحبذ القديس ولا الأثيم.

8
تبادلنا الأسرى؛ تعلمنا كيف ننظف بنادقنا. شاهدنا أفلامًا جنسية وأفلامًا عن قصّ الرؤوس؛ تعلمنا أن السرّ ينفذ دون أن نعرف؛ والمجهول يدخل علينا في غفلة ونحن مستيقظون.
ذات ليلة، أمام نفسي، غبتُ عن الوعي.

9
رممنا عظامنا في الظل؛ السطوح فقدت معناها، وصارت البيوت عارية. لا تعني البيوت شيئًا بلا جدران؛ الجدران سدنة الأحلام وحفظة لسان أهلها الذين يتمتمون في عتبة نومهم الطويل.

10
مسحنا الغبار ثانية عن شاشة التلفزيون؛ بدأنا نشاهد بعض ما أخفاه المؤرخ؛ التلفزيون هذا الكائن الفاضح أسرار الملوك، صار يبثّ الأحلام إلى نوم أهل المدينة. هذا الكائن الذي يشبه حوض ماء ونبعًا؛ رأيتُ فيه نفسي عائدًا إلى ذلك البيت الذي ما عاد يشبه البيوت بعد الحرب.

11
أول الليل، عادت بنا السفينة بحثًا عن اليباس. أنا بين النور والظل نمتُ قليلاً وحلمتُ بأزقةٍ تنفلق وتنزف من الخوف.

12
الرعبُ لطخ وجهي؛ الموسيقى تلاشي أعضائي؛ كابريساتٌ من باغانيني تكاد أن تتكلّم بلساني في منتصف الليل.

13
البابُ الذي فتحناه، نفض جميع الكلمات الخفية في وجوهنا، جميع الأصوات عادت إلى حنجرتي، جميعُ الأحلام صارخة هربت إلى مجهول. أحدهم مشغول بمسح التلفزيون، يشاهد صفحة سوداء، لا تزال تعرف أن التين وجد حبًا يتيمًا بلا باطن.

14
مرة رأيتُني في دغل، آكلُ جيفتي والقمرُ ببَيريته الفضية يشاهد؛ فاعترفتُ بأنني كثيرُ التناقض ومتزلزلٌ في المواقف؛ إنه الكون يتكلم ولا أذن صاغية؛ ومرة حين استيقظتُ في الصباح شككت بوجودي تحت الشمس.

15
أكلمُ نفسي كثيرًا عندما ألتقيك؛ ولا كلمة تؤويني ولا كهف يكون رحم السنين التي مضت على هذا الجسد الخاوي الذي غادرتُه ثم وجدتُني الجوال السائر في نومه في الشوارع. هنا لا أعرفُ أسماء الشوارع ولا أسماء الأحلام ولا المدن؛ ربما المدنُ هي الأمومة الضائعة.

16
على صفحة البركة رأيت خنازير تتناطح؛ وشبانًا يتقاتلون وعجزة يقصّون الحكايا ويضحكون. حتى على مشارف النوم، نستطيع أن نبقى على بعد أميال من حريق الورد.

17
بلغتُ المرايا ورأيتُني أتسلّقُ سلّمًا وأقطف النجوم؛ بلغتُ المرايا التي كانت قد وقفتْ أمامها فتاة تكاد أن تتعرّى لولا الشمس. أحيانًا نقول إن السماء شجرة تميل إلى الأزرق والشمسُ تفاحة ذابلة.

18
استمتعنا كثيرًا بأغاني الألم وروحانية الأدعية القديمة وانتظرناك كثيرًا في الفجر؛ وأنا كنتُ أحاول أن أصوغ بعيني صديقي الشهيد، خاتمين لي، لكي أتجرأ على قتل نفسي.

19
افتحْ الباب؛ دع ضيفنا العزيز يدخل؛ الضيف الخاص الذي كلّما يأتي، تبدأ عاصفة؛ ثم يحيط بنا صمتٌ كثير الوجوه.

20
تكلّمنا في الزورق عن سدنة الماء، وكدنا نغرق في البكاء الذي حدث إثر غناء تراثيّ صوفيّ يأتي من الجهة الأخرى للنهر.

21
البركة الصافية تلفزيون، رأيت فيه أمي تنتظرني على عتبة الباب. رأيت الثور يغرز قرنه في ضلعي. أقول كثيرًا إن ما أكتبه ليس شعرًا، بل مراثي شخصٍ يكره اسمه، وفقد ذات مرة بطاقته؛ وتأشيرتُه سقطت في جُبّ.

22
الشوارع الساكتة تكسرها أقدامُ حارس؛ واللاسلكيُّ يكذب. الأشجار "كونغرسٌ" مغلقٌ وأنا أصنع من الغيوم التائهة حيواناتٍ وطيورًا؛ والجنود دخلوا حانة وبدأوا يرقصون أمام الطاولات الخاوية.

23
والإيمان أن لا تؤمن بشيء؛ للصخرة روحانية الملائكة والأنف يشمّ البحر ويفسره لحديقة الأزهار. في مدينةٍ طائحة بدأتُ أتمرن على الركض وفتاة بلا نهدين كانت تضحك لي ضحكة الموت.

24
صيادو السمك كادوا يسكرون ويهجمون على حوانيت مغلقة؛ والنار تخاف أحيانًا من لهيبها وتكره أن تفعل مثلما تكره الأفعى أن تلدغ.

25
على شاشة التلفزيون تصويرٌ واحدٌ؛ تصوير شارع طويل، متعبٌ جدًا من قلقي الذي راح يصرخ في الشوارع رافعًا راية وسوف يبدأ بمسيرته من الليل حتى الصباح.

26
المراثي التي لا يفهمونها، عندي منها ملفاتٌ كثيرة. لأنهم لا يتقنون الكتابة. هكذا لا يستطيعون من ذلك الصوب أن يصلوا إلى وادي جهنم. هل أنت كوفيّ؟ أنت تحافظ على بندقيتي؛ والصحف كتبت أن كلاشينكوف كاد أن ينتحر، لأنه كان يجلس مع فرويد ويناقشه موضوعًا لا يعرفه أحد.

27
بكينا مع الأغاني القديمة والجديدة وطربنا؛ نمنا قليلاً وحرس بعضنا بعضًا؛ حرسنا المكان. لأن أحلامًا هربت وتاهت في صحارى الليل.


ـــــــــــــــــــــــــــــــ
أسير الحديقتين
قَدَر حمزة كوتي أن يشتغل بين الثقافتين العربية والإيرانية، في لحظة هي ليست من أفضل اللحظات. الشاعر والمترجم المولود في الأهواز عام 1983 ترجم إلى العربية مئات النصوص الشعرية من الفارسية، كما فعل الشيء نفسه مع النصوص العربية، وقد صدرت بتوقيعه عدة كتب مترجمة إلى الفارسية، من بينها: "جدارية" محمود درويش، و"طفولة موت" و"الحديقة الفارسية" لنوري الجرّاح و"تنبأ أيها الأعمى" لأدونيس.

المساهمون