لبنان.. البلطجية العصيّة

11 اغسطس 2016
لا سلطة تعلو فوق سلطة الحزب والطائفة (Getty)
+ الخط -
"البلطجية في مصر"، "الشبيحة في سورية"، أمّا في لبنان فلا تعريف لهذه الظاهرة أو ربما اكتسبت شرعية مستترة حين تحوّلت "لجناح أمني مسلّح" لدى الأحزاب.

أهلاً بكم في لبنان، لا دولة عميقة هنا. فهنا لا سلطة تعلو سلطة الحزب والطائفة. هم من يختار ممثّلهم في الدولة، والمحاصصة يكفلها الدستور من العدد إلى النوع، "ستة ستة مكرّر" وتوزيع عادل للمناصب والوظائف الأساسية. هنا مهد بدعة الديمقراطية التوافقية وما التحالفات السياسية سوى ورقة عبور إلى البرلمان تتساوم عليها الأحزاب.


هنا لا إنماء متوازناً، وبالتالي العلاقة الطردية بين غياب الإنماء والبلطجة، تعني أن الأخيرة ترتفع كلّما ابتعدنا عن العاصمة نحو الأطراف، أو ربما نحو الضواحي وأحزمة الفقر.

للتشبيح والبلطجة معنى يختلف بين منطقة وأخرى في لبنان. ففي البقاع الشمالي "خزان المقاومة" الذي تحوّل "طريق الانتصار" الممتد عبره إلى معرض رايات شكر للجمهورية الإسلامية وأعلام لحزب الله وصور لشهدائه، شباب في مقتبل العمر منهم من "قاوم" العدو الإسرائيلي، ومنهم من قتل في سورية، ومنهم من ينتظر جولة أخرى من حروب حزب الله الإلهية اللامتناهية.

على ذاك الطريق، لا مستشفى بالمستوى المطلوب ليعالج الحالات الخطرة، لا جامعات، ولا مصانع تؤمّن فرص عمل لشباب المنطقة الذين اتّجه معظمهم نحو قيادة "الفانات" رقم 18 بين المنطقة وبيروت إلّا أن معظمهم عندما يعلن "الحزب" نفير الحرب، يتحوّلون إلى "جنود الله في الميدان" أو لاعبي احتياط في صفوف سرايا المقاومة. وما بين الفان رقم 18 وسرايا المقاومة، كلّ الحكاية.

تشتهر بعلبك الهرمل بزراعة الحشيشة، هذه النبتة غير المشرّعة إلّا في حالة المسؤول ذي المنصب، أو الضائقة المالية حين تصبح الهبات غير كافية لتغطي كلفة الحروب المنسوبة لله، ذلك المتعالي عن كل تلك الجرائم المنذورة على اسمه. وللحشيشة تلك بلطجيتها الكبار على امتداد لبنان.

بعضهم يمتلك القصور في البقاع ويدعو النائب والمسؤول إلى مأدبة وذبائح على شرفه، يحضرها فقراء المنطقة الذين لا شأن لهم بالحشيشة أو الذين حاولوا زراعتها لكن "الدولة" أتلفت محاصيلهم المحدودة في عملية نوعية حرص الإعلام على تغطيتها والثناء عليها. وبعد انتهاء نشرة الأخبار على الراديو، بينما أنت متّجه من البقاع إلى بيروت، بالفان 17 أو 18، ستستمع إلى أغنية نعيم الشيخ، الذي يصدح "تيمناً" بالحشيشة ورجالها.

أمّا سرايا المقاومة، فهي مجموعة من العناصر ذوي الإيديولوجيا المهزوزة واللياقة البدنية الأضعف، ارتأى حزب الله توظيفهم براتب لا يتعدّى الخمسمئة دولار ولاسلكي وسلاح وبزّة مرقعة. يحفظون أمن قرى وبلدات حزب الله، وعندما تناديهم الخطوب إلى إرعاب الناس لا يترددون بقطع الطرقات وهم بكامل عتادهم العسكري، لا بل هم لديهم السلطة المطلقة بإهانة من يشاؤون، ويذهبون أكثر من ذلك بكل راحة، فهم الأدرى بمصلحة وأمن أهل المنطقة.

حسناً، المشهد ليس في الرقّة عاصمة الخلافة، إنّه في بعلبك - لبنان. لهؤلاء أيضا أدوار في مواسم الجهاد. "فعند القطعة"، يتحوّلون إلى مساعدين لوجستيين في خدمة رجال الله في الميادين.

أمّا عن الضاحية الجنوبية لبيروت، فنسمع الكثير، ولكن لم نر، معظمنا لم ير، وإذا رأى فسيصمت، وإن لم يصمت بالحسنى، له في "أمل شمص" أسوة حسنة لعلّه يعتبر.

على بعد كيلومترات بسيطة من بعلبك، في زحلة رجال أحد الأحزاب متّهمون بقتل رجلين مقرّبين من رجل سياسي آخر، منذ سنوات عديدة. عجزت الدولة عن إيجادهما بالرغم من أن الزحلاويين يعرفون خصمهم جيداً.

إنه القضاء يا عزيزي، لا يقتنع إلّا بالأدلّة الدامغة، لم تقنعه جريمة قتل الطيار سامر حنّا، ولا جريمة زحلة، ولا جريمة قتل جورج الريف، ولا اختفاء جوزف صادر وطارق ربعة. أقنعه المشتبه بهم من صغيرهم إلى كبيرهم، بؤساء المخيمات السورية.

وإذ كان للبلطجة والتشبيح والزعرنة من تجلٍّ، فهو أحداث بيروت في شهر مايو/أيار 2008. هناك ظهرت الأحزاب على حقيقتها وعلى وجه مستنقع الحقد والدماء والتعبئة المذهبية، ظهر السلاح الذي اعتقدنا أنه وجد لمقاومة العدو الصهيوني، والذي حرصنا على التبرّع لحملاته وصناديقه في المحال التجارية حتى بعد التحرير، فإذ به يدير بندقيته إلى صدور المدنيين في بيروت، ليحصد أرواحاً ويجرح آخرين، ويحاصرهم ويرهبهم، ويحرق مع شركائه في فتح بيروت المؤسسات الإعلامية ويلاحقون الصحافيين في شارع الحمرا ليضربوهم حتى الكوما والتهجير لاحقاً.

روايات كثيرة تروى عن البلطجة في لبنان. فهناك بين باب التبانة وجبل محسن فصول طويلة من حروب الشوارع والعصابات، ذهب خلالها العديد من المدنيين عن طريق الخطأ. وفي طرابلس تفجير لمسجدي التقوى والسلام حول 47 مواطنا إلى أشلاء.

المتهم بالجريمة عاش لأعوام عديدة، كالزومبي يقتات على دماء الطرابلسيين وإذكاء الفتنة في ما بينهم. له منزله وحاشيته ورصيده المصرفي وعلاقاته الخارجية، ويناديه الكثر بالمعلّم والزعيم.

المعادلة في لبنان بسيطة، البلطجية هم بحمى الأحزاب، وعندما تكون الأحزاب أقوى من الدولة، يعني أن البلطجي عصيّ على منطق القانون والمحاسبة.

والبلطجية مراتب، فكما أن هناك البلطجي الصغير، هناك البلطجي برتبة خمس نجوم، الذي ارتقى السلّم (جنحة جنحة، وجرماً جرماً)، حتى أصبح قائداً للبلطجيين الصغار، ويسمّى أحيانا "مسؤولاً". غسل يديه جيّداً من عرق الفقراء ودمائهم، ارتدى ثوب الدولة الراعية المانحة وصار يضرب بسيفها كل عرقلة تواجهه، جلس خلف مكتبه وأشعل سيكارة، أخذ منها سحبة عميقة، تعطّر ببعض العطور الغربية لزوم الدبلوماسية، ثم انبرى يكتب خطاباً عن حقوق الفقراء والكرامة والعيش المشترك ودولة القانون.. لم ينسَ أن يختم المقال بنصائح للشباب بعدم الانجرار وراء تعاطي الحشيشة، ثم ذيّلها بتوقيعه وختم الحزب.

المساهمون