عن جدوى الاشتباك

15 أكتوبر 2015
جولة جديدة من مقاومة شعبية (فرانس برس)
+ الخط -
الهبّة الشعبية التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المحتلة هذه الأيام جاءت بفعل تراكمات جرائم الاحتلال المتسارعة بحق الشعب الفلسطيني خلال عشرين عاماً، كان من المفترض أنها سنوات "سلام" لا خسائر فيها.


وكلما ظن وروّج أنصار "عملية السلام" أن خيارهم هو الخيار الوحيد العقلاني والمجدي، تتجدد وتيرة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي بشكل عنيف. خلال السنوات الماضية شهدت عموم الأرض الفلسطينية المحتلة عدة انتفاضات وهبات شعبية، وجولات قتال عديدة في قطاع غزة نتجت عن قناعة أن الفعل المقاوم يمكن له أن يتجدد المرة تلو الأخرى وبوتيرة أكثر عنفاً مما سبقه، وأن هذا الفعل هو الحل الأنجع للرد على الاحتلال والسير في طريق الحرية، والخروج من دائرة العجز التي تحيط بالفلسطينيين بفعل منظومة القهر السياسي التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضدهم في جميع الأصعدة وبكافة الأشكال.

ما تشهده فلسطين المحتلة حالياً، هو جولة جديدة من مقاومة شعبية، بعيدة عن الصواريخ والعبوات والقذائف التي تملكها المقاومة في قطاع غزة، التحام مباشر بين طلاب وعمال وأطفال على نقاط التماس، وآخرين يفتحون جبهة بمفردهم بسكاكين وأدوات حادة مشكلين كتائب ذاتية التسليح والتخطيط تنجح في إلحاق الأذى بمستوطني وجنود الاحتلال وبسلاحهم نفسه في بعض الأحيان، تاركين منظومة أمن الاحتلال أمام فشل كامل في السيطرة على قنابل بشرية موقوتة تتحرك في الأرض المحتلة قد يشعل فتيلها شجاعة وإقدام شهيد أو مشهد لإعدام آخر بدم بارد.

أهالي قطاع غزة المنهكون بمشاكل الحصار المتزايدة وغياب الإعمار والأزمات الحياتية بفعل العدوان الأخير بشكل مباشر وما سبقه من جولات قتال، لم تمنعهم المنطقة العازلة والأسلاك الشائكة والأطنان من الحديد التي تعلوه رشاشات من التوجه لممارسة الاحتجاج بوصفه فعلاً مقاوماً حقيقياً أكثر من كونه تضامناً مع الضفة الغربية والقدس، ورداً على أذى شخصي وقع على أغلبهم في آخر عدوان وما قبله. كما أن المواجهة على حدود غزة بغض النظر عن فعالية أدواتها تؤكد أن القطاع جزء من حالة مقاومة شعبية في عموم الأرض المحتلة، وأنه يرى نفسه جزءاً أصيلاً من أي فعل مقاوم يجري فوق أرضه المحتلة.

ومع أن تكلفة المواجهات الشعبية تبدو مرتفعة نسبياً في قطاع غزة لأسباب ميدانية، يبدو أن الشبان الفلسطينيين لا يلقون بالاً لهذا الأمر، مع تزايد قناعاتهم أن سياسات القتل والقمع الإسرائيلية تستهدف الفلسطينيين بنفس القدر في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، حتى في مدن فلسطين المحتلة عام 1948، التي شهدت يوم الجمعة عدة مواجهات، تتزامن مع ذكرى "هبة أكتوبر عام 2000" التي ارتقى فيها عدد من الشهداء.

ثمن الاشتباك مع الاحتلال قد ندفعه في أوقات كثيرة دون أن نكون في حالة اشتباك، فالشاب أحمد خطاطبة على سبيل المثال أعدمته قوات الاحتلال بدم بارد -مثله مثل كثير من الشهداء- قبل أسابيع على حاجز بيت فوريك شرق نابلس، مانعة أحد المواطنين من الاستفهام عن حالته غير الطبيعية ليتضح فيما بعد أنه أصم قتل برصاصات لم يسمعها. كما أن الكثير من الشهادات تؤكد أن الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية بزعم الاشتباه، وفي أحيان كثيرة ينفذ الإعدام بعد تمكن قواته من اعتقال الفدائيين.

وعليه فإن المقاومة، أيًا كان شكلها، الشعبية أو تلك المسلحة منها تؤول في النهاية إلى ثمن مكلف بموجب سياسات القتل العمد الإسرائيلية.

وبموجب الفروق في ميزان القوة العسكرية بين الاحتلال والشعب الفلسطيني بكافة أنواع مقاومته، فإن ما يقوم به المنتفضون هو محاولة تعديل ميزان القوة لصالحهم، ووضع قوة الاحتلال في صف الخاسرين، ورفع تكلفة القتل عليها. فهم من جهة يؤسسون لحالة رعب في الشارع الإسرائيلي بفضل فعلهم المقاوم.

وتتلقى شرطة الاحتلال الاسرائيلي عشرات الآلاف من الاتصالات التي تشتبه بوجود فلسطينيين ينوون تنفيذ عمليات، ومن جهة أخرى يصنعون حالة اشتباك لا سقف لها يمكن أن تبقى دائمة لفترة طويلة ما قد يدفع الاحتلال ثمنه خسائر بشرية قليلة نسبياً وخسائر مادية بالتأكيد فادحة نظراً لما يستلزم حكومة الاحتلال من أموال مقابل توفير الحماية من غضب الجماهير، فضلاً عن إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية وسط الشرق الأوسط الغارق بالدماء والعالم المتغاضي عن جرائم الاحتلال المتواصلة.

لاشك أن جدوى الاشتباك مع قوات الاحتلال المدججة بالسلاح لن تأتي أكلها بالشكل المرجو، لكن استمرار المواجهات بالشكل الحالي جدواه أكثر من التعايش مع الجرائم اليومية والاعتداءات المتتالية على الفلسطينيين، فخروج الشبان بالحجارة والمولوتوف يؤكد إصرارهم على حقهم وعدالة قضيتهم كما تثبت أن كل محاولات الاحتلال وشركائه في "عملية السلام" فشلت في ترويض هذا الشعب للتعايش جنباً إلى جنب مع الاحتلال، ليصبح هؤلاء المنتفضون بكل شهيد يرتقي أقرب لما يريدون وليصبح الاحتلال الإسرائيلي في كل يوم وبعد كل جولة على قناعة بأن تلك الهبات لن تتوقف وتنتهي إلا بطريقة واحدة، هي الخلاص منه.

(فلسطين)
المساهمون