سرّ الماكينات الألمانية!

01 ابريل 2015
يتمتع القطاع الخاص في ألمانيا بمستوى مديونية منخفض(آدم بري/Getty)
+ الخط -
تخيل دولة يعمل شعبها ساعات أقل من أي شعب آخر تقريباً، ويمضي أطفالها وقتاً أقل في المدارس مقارنة بمعظم الدول المجاورة. إنها بالكاد وصفة للنجاح الاقتصادي. هذه الدولة ليست سوى ألمانيا. في الواقع، فإن الألمان هم الوحيدون، من بين 34 عضوا من أعضاء منظمة التعاون والتنمية، يعملون لساعات أقل، لكنهم، رغم ذلك، صناعيون محترفون الى أبعد الحدود، وهو سر السمعة التي اكتسبها الألمان من حيث قدرتهم الكبيرة على إتقان العمل. ليس ذلك فحسب، بل إن طلاب ألمانيا يقضون وقتاً أقل في الفصول الدراسية بنسبة 25٪ من نظرائهم الإيطاليين، لكنهم في طليعة دول العالم في علوم الطب والهندسة والتكنولوجيا والتقنيات الحديثة. هذه الحقائق تظهر عظمة الاقتصاد الألماني.

ليس هناك شك في أن ألمانيا استفادت كثيراً من اعتماد اليورو العملة الرئيسية للبلاد، الأضعف نسبياً مقارنة مع المارك الألماني الأكثر قوة واستقرار، على افتراض أنه لا يزال عملة ألمانيا الوطنية، إذ إن ألمانيا واحدة من الدول القليلة التي تحقق فائضاً في ميزان المدفوعات. وفّرت هذه الميزة الاقتصادية دعماً قوياً للصادرات الألمانية، فأصبحت منتجاتها، مثل السيارات والمعادن والماكينات، أرخص كثيراً بالنسبة للمستهلكين في الخارج، ما أسهم في جعل ألمانيا قوة تصديرية عالمية.

وعلى نفس القدر من الأهمية، يتمتع القطاع الخاص في ألمانيا بمستوى مديونية منخفض نسبياً مقارنة ببقية دول أوروبا، التي أتخمت اقتصاداتها بالاقتراض الرخيص طيلة فترة التسعينيات ومطلع الألفية الثانية، في وقت رفض الألمان أن ينفقوا بما يتجاوز مواردهم المالية. أحد أسباب ذلك هو أن أسعار الفائدة الحقيقية في ألمانيا ظلت مستقرة إلى حد بعيد، خلافاً لنظيراتها في الاقتصادات الأوروبية الأخرى، مثل المملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، حيث أدى ارتفاع معدلات التضخم في هذه الدول إلى تراجع أسعار الفائدة الحقيقية إلى مستويات قياسية، ما زاد الحافز إلى الاقتراض بشكل كبير.

ولكي نكون منصفين، فإن الاختلافات الثقافية بين الشعوب تلعب دوراً هاماً في الشأن الاقتصادي، خاصة في وقت الأزمات. فالألمان، بكل بساطة، لا يشعرون بالارتياح تجاه مفهوم الاقتراض، إذ يفضلون العيش في حدود إمكاناتهم الخاصة. وحتى على صعيد اللغة الألمانية ذاتها، فإن كلمة "اقتراض" تعني "الشعور بالذنب"، إذ إن ثمة خللاً ما، بالنسبة لهم، في الشخص الذي يقوم بالاقتراض.

لكن هناك أسبابا أخرى عميقة الجذور وراء التفوق الاقتصادي الحالي لألمانيا في أوروبا، ليس أقلها، في واقع الأمر، العدد المنخفض نسبياً من الساعات التي يقضيها الألماني في العمل وفي الفصول الدراسية. فقد أثارت الارتفاعات الكبيرة في الأجور، في الفترة التي أعقبت توحيد ألمانيا، قلق الحكومة الألمانية في أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع معدلات التضخم، فشرعت في تنفيذ برنامج إصلاح جذري لسوق العمل في عام 2003، استخدمت الحكومة صلاتها الوثيقة مع النقابات العمالية للدفع باتجاه استقرار أكبر في نمو الأجور.

أرست الإصلاحات أساساً متيناً لسوق عمل مستقر ومرن. ففي حين تزايدت معدلات البطالة، خلال فترة الانكماش الاقتصادي العالمي، في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، فإن عدد العاطلين عن العمل في ألمانيا لم يطرأ عليه تغيير جوهري، فقد كان العمال الألمان على استعداد للعمل ساعات أقل، وهم يعلمون بأنهم سيحتفظون بوظائفهم نتيجة لذلك. إضافة إلى ذلك، يحتفظ العمال الألمان بصلات قوية مع أصحاب العمل، فهناك ثقافة سائدة بين أصحاب الأعمال تقر وتكرم الجهود التي تبذلها القوى العاملة لديها. فلا عجب، إذن، أن الألمان يعملون ساعات أقل من معظم الشعوب الأخرى.

وعلى الجانب الاخر، فإن لنظام التعليم السائد في البلاد دور كبير في استمرار زخم القوة الصناعية في ألمانيا، فنظام المدارس يعتمد أساساً على ما يطلق عليه التربويون بـ "التفضيل المجتمعي"، حيث تنتهي المدارس في وقت الغداء. أما في المرحلة الثانوية، يلتحق نصف الطلاب بفصول التدريب المهني، بينما يلتحق النصف الآخر بفصول التلمذة الصناعية، حيث يمضي المتدربون، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و16 عاماً، أوقاتاً أطول في التدريب وهم في موقع العمل مما هي عليه في المدرسة. وبعد ثلاث إلى أربع سنوات، تكون فرصة حصولهم على وظيفة بدوام كامل مضمونة تقريباً.

إقرأ أيضا: دبي: وجهة سياحية عالمية تسعى لاستقطاب 20 مليون سائح
المساهمون