ثلاث قصص

03 مارس 2015
عمل فني لـ يوسف عبدلكي
+ الخط -
التعب من اللعب

أغلق أبي الباب بشدّة وذهب، من دون أن يأخذنا معه إلى الحديقة العامة. كانت ماما قد تمدّدت ووضعت يدها على وجهها، كأنّها تمنع أن يدخل ضوء الشمس عينيها. ضرب آيدين على الباب والجدران ولعبنا لعبة الحرب. صرت سارقًا وطاردني آيدين بالبندقية. احتميت وراء بطن ماما الكبير وأطلق النار نحوي. لم تعاتبنا ماما وصرخ آيدين في وجهي بصوت أعلى، فاستسلمت له. ثم قلت:
"تعال نبني حديقة."
في البدء، رصفنا السياج حول الحديقة. ثم أحضرنا المزهريات فأصبحت أشجار الحديقة. قال آيدين:
"التمثال."
مشيت راكضًا وجئت بدميتي العمياء. آيدين كان قد أخرج عينيها من رأسها. حدّق آيدين إلى ماما واقفًا. سحب كمّي وقال:
"تعال، ماما تصير تمثالنا."
أمسكنا رِجل ماما وجررناها. لم نقدر أن نحرّكها. كانت ماما ثقيلة. تساعَدْنا وجررنا إحدى رجليها مجددًا. ذهبنا وراءً، ووقعنا على الأرض وضحكنا. وقفنا من جديد وجرّرنا رأس ماما هذه المرة. ثم أمسكنا رجليها مجدَّدَاً وحركناها كثيرًا حتى استطعنا أن نجرّ ماما إلى وسط الغرفة. كانت ماما في هذه اللحظة قد وضعت يدها على بطنها الكبير مغلقة عينيها. وضعنا سياجًا حول ماما. أحضرنا المخدة والوسادة الموجودتين في البيت ورصفناهما حولها. لو كان أبي في البيت لحبسنا في القبو وأغلق الباب. ولو فتحتْ ماما عينيها لصرخت في وجهنا. لكن ماما كانت قد أصبحت تمثالًا حقيقيًا، فكانت وسط الغرفة وحولها سياج بمستوى قامتي.
قال آيدين: "تعال نلعب لعبة الحرب".
قلت: "الحديقة ليست مكانا للحرب".
"إذن نلعب لعبة مطاردة الذئب".
طارد بعضنا بعضاً وصرخنا. توقّف آيدين فجأة. كان ينظر إلى ماما وكأنه يرى نملة تمشي على وجهها. اقتربت أكثر. كان الدمع يسيل من زاوية عينيها وجعل شعرها يتبلّل. قلت:
"هذه نافورتنا يا آيدين!"
انحنى آيدين لينظر إلى عيني ماما والدمع يسيل منهما كالنبع. قلت بصوت منخفض:
"تعال، الدمع في هذه الناحية أكثر".
انحنى آيدين على وجه ماما، ثم ناداها:
"يا ماما!"
قلنا كلانا فجأة: "يا ماما! يا ماما!"
أمسكت ماما أيدينا. كانت يداها باردتين جداً.
"ألستما متعبين من اللعب المستمر؟ ... أنا تعبت جداً يا أولادي. تعبت جدًا من اللعب".
ثم ضحكتْ وسال الدمع من زاوية عينيها على شعرها.
***

حتّى حين نضحك

نحن أربع نساء. حين نجتمع، نستطيع أن نضحك ولو كنّا حزينات. نقدّم للبعض أحمر الشفاه وبودرة الوجه وننظر إلى أنفسنا في مرآة صغيرة تتداولها الأيدي. يبدأ حديثنا من أولادنا وينتهي إلى أزواجنا. لذلك صوتنا ناعمٌ في البدء، لكنه يزداد غلظة شيئاً فشيئاً. نتحدّث ببالغ المتعة عن خياناتنا. نعرف الآن بعضنا بعضًا جيدًا، فنعرف كيف تخون كلّ واحدة منا.
إن إحدانا تجعلنا نشعر بالتقيؤ دائمًا. هي تطبخ لزوجها، حين تغضب، مشاوي ملطخة إياها بلعابها. هي تحكي لنا قصصاً مقرفة، فنكوّر أجسادنا ونسدّ آذاننا بأيدينا ونسألها بإلحاح ألا تواصل كلامها. لكنها تنفجر ضاحكة لتبدأ الحديث من جديد. برأينا هي امرأة متخلفة عقلياً لأنها لا تتقن إلا طريقة واحدة للانتقام.
تنهب إحدانا رَجُلها سرّاً وعلانية، نائماً كان أم صاحياً، في البيت وخارجه حين يذهبان للشراء. هي قادرة أيضاً على تزييف فاتورة المياه والكهرباء لنهب زوجها. هي تعطي وتقبض دائماً. هي ساحرة حقاً.
أنا دخلت صفقة أخرى مع الحياة. منذ سنين وزوجي كنباية البيت أو مدفأة لصق الجدار أو صحن على المائدة. لم أعد أمتلك أي شعور تجاهه. كل يوم يتخذ شكلاً جديداً سوى شكل رجل يبغيه البيت.
واحدة منا فقط لم تتحدّث عن خيانتها حتى الآن. نحدّق كلّنا فيها. ليس من المقرّر أن يمتنع أحد منا عن البوح بسرّه في جمع من الصديقات هذا. نحن نظنّ أن لها طريقة جديدة في الخيانة، لأنها قد حافظت على ملامحها الخالية من الابتسامة منذ بداية الضيافة. نقرّب مقاعدنا منها وفي عيوننا بريق الاستطلاع.
تغمض عينيها بعد صمت يغضب الجميع لتقول بصعوبة بالغة:
"أنا أيضاً ... أنا أيضاً قد خُنت".
نأخذ نفساً من الارتياح، فتقول إحدانا:
"أحسنتِ ... واصلي كلامك!"
"لم أخنه، بل خنتُ نفسي!"
نقول:
"رومانسي جداً! كلامك شعر!"
"لم أعش أبداً حياة يتمناها قلبي خلال هذه السنين كلها".
"ماذا كان قلبكِ يتمنى؟"
" لا أعرف ... لم أعد الآن أعرف هذا أيضاً!"
كلنا صامتات. تُخرج إحدانا أحمر خدودها من حقيبتها وتقدّمه للجيمع. نكثّر كلّنا من لون خدودنا وشفاهنا من دون أن ننظر إلى المرآة ونعود إلى بيوتنا.
***


من دون هواجس

أحبّ أن لا أرى أحدًا ورائي حين أجتاز منعطف الزقاق، لكن هذا لن يحدث أبدًا. أنا لا ألتقي بخالاتي ولا أمي ولا صديقاتي القديمات، ولكن هناك رجالا ونساء وحتّى أطفالاً، يدخلون ورائي دائمًا هذا الزقاق الضيق ويشعرون بالارتياح في بيتي الصغير مثلما يشعرون بالارتياح في بيوتهم.
يقع بيتي في آخر زقاق ضيق مسدود يربطه بالشارع منعطفٌ وحيدٌ، وبعد المنعطف بيتي الذي له باب ضيق جدًا كأنه صُنع كي لا يمرّ منه سوى شخص واحد، شخصٌ نحيف مثلي. فأستطيع أن أرى الزقاق كلّه من بين فتحة الباب.
أنا أحبّ بيتي. وجدت هذا البيت بعد أن بحثت عنه سنين طويلة. بيتي صغير منعزل.
قرّرت أن لا يرافقني أحد إلى بيتي. بذلت سنوات طويلة لإنجاز هذا القرار. لا أشعر بالوحدة حين لا تدخل بيتي صديقاتي ومعارفي، ولكن هناك رجلًا يمشي ورائي بخطوات بطيئة منذ أشهر، ويدخل بيتي قبل أن أغلق الباب جيدًا. هو يشعر بالارتياح في المطبخ كما يشعر بالارتياح في غرفة الجلوس. له ضحكة عالية تنتهي بسرعة وله عينان لن تحدقا إليّ أبدًا. هو قادر على أن ينظر إلى النافذة التي تقع مقابل بيتي ووردة السجادة والرسم على الجدار ساعات طويلة، ولكنه لا يقدر أن ينظر إلي.
أشعر بالحقد عليه وأقرّر صباح كلّ يوم ألا أسمح له بالدخول إلى بيتي حين أرجع ليلًا. أنسى قبيل الغروب القرار القاطع الذي كنت قد اتخذته صباحًا. أتردّد، ثم حين أسمع وقع خطاه ورائي أعرف أنني لم أعد أملك خيارًا آخر.
ولكنني لا أستطيع أن أكون بضعة أشخاص طوال اليوم كمعظم الناس على الكرة الأرضية. أريد أن أكون بسيطة هادئة من دون أن أشعر بالهواجس. أقرّر ألا أخرج من البيت. الباب مقفل لستة أيام. يبدو أنني راضية. لم يعد يزعجني أحد الآن. البيت ليس إلا لي، وأنا أدور في غرفه مرتاحة.
في اليوم الخامس أصرخ ولا يوجد أحد يسمع صوتي. إذن، أتجه بخطوات بطيئة نحو الباب. خلال الأيام الثلاثة الماضية، جئت إلى خلف الباب مرات عديدة ورجعت من دون أن أفتح الباب. أسحب قفل الباب هذه المرّة وأفتح الباب بهدوء. الزقاق الضيق غارق في أضواء النهار ولا يُرى أحد فيه.


الترجمة عن الفارسية سمية آقاجاني
المساهمون