جائزة القدس للأدب؛ شرك "فن القصّ"!

24 فبراير 2015
+ الخط -
لعلّ أوّل ما تثيره قضية "جائزة القدس للأدب" التي تمنحها البلدية الإسرائيلية لهذه المدينة كلّ عامين منذ 1963 في إطار المعرض الدولي للكتاب الذي يُقام في القدس، أن السلطة الحالية في إسرائيل تدرك أن الروح والنية والرواية التاريخية والقصة ليست أهم شيء فحسب، بل الشيء الوحيد، حتّى لو كانت مجانبة للواقع.
الشيء الأساسيّ في عصرنا هو "فن القصّ"، إذ إن كلّ الأعمال في الحقيقة، تنبع من الهيمنة عبر هذا الفنّ على الوعي، لكون هذا الأخير الميدان الحاسم الذي يصوغ الواقع، وهذا هو الميدان نفسه الذي كان النازيون والفاشيون أكثر من عرف كيف تتمّ السيطرة عليه، وعلى ما يبدو فإن اليمين الإسرائيلي يحذو حذوهم.
مُنحت أخيرًا "جائزة القدس للأدب" إلى الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه. وجاء في قرار لجنة التحكيم: "إن الكثير من كتب كاداريه مشيّدة على أساس الماضي التاريخي والذاكرة الجماعية للشعب الألباني، وهي تقدّم تعبيرًا عن القمع الذي مارسه النظام الشمولي أثناء هيمنته على ألبانيا". وجاء أيضاً "يركّز كاداريه في كتابته على عنصري؛ المسؤولية الجماعية وعدم تغلغل الحقيقة بين أوساط البشر، متوخيًا الكشف عن قضايا لم تُحلّ وجرائم لا يمكن التكفير عنها".
وعلى أعتاب تسلّمه الجائزة قبل أسبوع ونصف أسبوع، أدلى كاداريه بحوارات صحافية لوسائل إعلام إسرائيلية قال فيها
إن ضغوطًا لم تُمارس عليه لحثّه على عدم زيارة القدس وتسلّم الجائزة، ربما لمعرفة كلّ من ينوي ممارسة ضغوط كهذه أن ذلك من شأنه أن يشجّعه على المجيء أكثر فأكثر.
وفي سياق الحوار الخاص مع صحيفة "هآرتس" (9/2/2015) لفت كاداريه إلى أن ثمّة قاسمًا مشتركًا بين اليهود والألبان، هو المعاناة على مرّ التاريخ من خطر الإبادة والاختفاء كثقافة وشعب، وأكّد "حقيقة أن الشعب اليهودي كان تحت وطأة التهديد طوال التاريخ، حقيقة مطلقة".
ووفقًا لـ "مبدأ" الجائزة، فإنها تُمنح إلى كتّاب تعبّر نصوصهم عن "فكرة حرية الإنسان في المجتمع".

وفي كلّ دورة من دوراتها، تتعالى أصوات مناهضي الاحتلال الإسرائيلي، داعين إلى إقناع الكتّاب العالميين الفائزين، إلى رفض قبول "جائزة القدس للأدب" ما دام الفلسطينيون في القدس الشرقية المحتلّة، غير قادرين على ممارسة حقّهم في الحرية.
لكن، تظلّ هذه الأصوات قليلةً، وتضيع في لجّة أصوات كثيرة لا تأبه لهذه الانعكاسات وردود الأفعال، وتغض النظر عن واقع أن بلدية القدس، هي مؤسّسة محورية في إسرائيل، وأداة رئيسة لفرض الاستيطان اليهودي في القدس الشرقية المحتلة.
وتدعي بعض هذه الأصوات أن الجهة التي تقرّر منح الجائزة هي إدارة معرض الكتاب الدولي في القدس، لا وزارة الخارجية الإسرائيلية، وأنه لا بُدّ من إقامة فصل بين "المجتمع المدني" وبين الحكومة في إسرائيل، على غرار ما قال الكاتب البريطاني إيان ماكيوان في مقابلة خاصة أدلى بها إلى صحيفة "غارديان" بعد منحه الجائزة عام 2011، مضيفاً أنه يعارض المستوطنين الإسرائيليين في المناطق الفلسطينية المحتلة، ويؤيّد مطلب تجميد أعمال البناء الاستيطاني في تلك المناطق، لكنّه في الوقت عينه، شدّد على أنه يعارض حركة "حماس" وقيامها بعمليات إطلاق الصواريخ على إسرائيل.
وعلى ذكر ماكيوان، فإن قرار منحه "جائزة القدس للأدب" في حينه، جاء بمثابة تغطية على حدث تزامن معه، تمثّل في زيارة قام بها المخرج السينمائي البريطاني كين لوتش إلى رام الله، وأكّد خلالها أنه يجب الحرص على أن تصبح إسرائيل دولةً منبوذةً، كما يجب العمل على تطوير حملة مقاطعة إسرائيل لتشمل المقاطعة الاقتصادية أيضًا، وأوضح أن الوقت الحالي ليس وقت التزام الصمت أو صناعة أفلام تتغاضى عن الواقع.
بدأ الجدل حول "اللطخة المحيقة" بـ "جائزة القدس للأدب" منذ عام 1967، أي عام النكسة، الذي فيه تمّ احتلال القدس الشرقية الفلسطينية وضمّها إلى إسرائيل خلافًا لأحكام القانون الدولي، وهو ما أفضى إلى جعل سلطة الاحتلال والتمييز والأبارتهايد جزءًا من الواقع اليومي في المدينة.
وبمرور الأعوام، صارت الفجوة بين ادّعاء المسؤولين عن الجائزة التطلّع إلى إعلاء شأن قيمة حرية الإنسان في مجتمعه وبين واقع القهر وقمع حقوق الإنسان، آخذةً في الاتساع.
وقد داعب الأمل بعض الكتّاب اليساريين الذين منحوا الجائزة، بأن يساهم قبولهم لها في تغيير هذا الواقع، وتبديله بواقع آخر مغاير، فيه السلام والمساواة والحرية. غير أن هذا الأمر ليس متعذّر التحقّق أصلًا فحسب، بل إن مخططات نهب أراضي الفلسطينيين وممتلكاتهم تفاقمت وازدادت أكثر فأكثر في نطاق عمليات تهويد القدس وتطهيرها من سكّانها الفلسطينيين. وهذا الكلام ينسجم تمامًا مع آخر التطوّرات المرتبطة بموضوع القدس، الذي عاد مرةً أخرى إلى رأس أولويات الأجندة الإسرائيلية.
لا بدّ في هذا الصدد من استعادة تأكيد حتّى جهات إسرائيلية معينة، حقيقة أن الحكومة الحالية اختارت منذ بدء ولايتها أن تكون القدس حلبة للمناكفات والمشاحنات السياسية، إلى درجة تحوّلت فيها المدينة من جرّاء ذلك إلى اسم مرادف للتطرّف والنزاع. وبات من الأسرار المفضوحة أن سياسة التخطيط الإسرائيلية في القدس الشرقية منذ عام 1967 نجمت إلى حدّ كبير عن التطلع نحو فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة والمطلقة على المنطقة، وأيضًا كتحصيل حاصل السعي إلى المحافظة على أغلبية يهودية راسخة في المدينة.
في واقع الأمر فإن الصورة العامة للأوضاع في القدس يمكن أن تجملها فقرة واحدة من تقرير صادر عن جمعية حقوق المواطن في إسرائيل بشأن معاناة الأهالي الفلسطينيين فيها تحت وطأة ممارسات المستوطنين والبؤر الاستيطانية ومؤازرة السلطات الإسرائيلية لهم.
وورد في هذه الفقرة ما يأتي: "إن كل مَن يتجوّل في الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية في الأعوام الأخيرة، ولا سيّما في الأحياء القائمة حول البلدة القديمة، لا يستطيع إلا أن يرى مزيدًا من المواقع المحاطة بالأسوار التي يقف على مداخلها حرّاس مسلّحون. في هذه المواقع المقامة داخل الأحياء الفلسطينية المبنية باكتظاظ عمراني كثيف، يعيش الآن آلاف من اليهود وتنشط فيها عشرات المؤسّسات العامة التي تقدّم لهم الخدمات. والحديث هنا لا يدور حول استيطان عشوائي، بل حول مشروعات مدروسة ومخطّطات لجمعيات سياسية هدفها المعلن هو تهويد القدس الشرقية. إن الوجود الدائم لهؤلاء "الجيران" الجدّد المحميين بحراسة مسلّحة دائمة، هو وجود ذو انعكاسات كثيرة على نسيج الحياة في الأحياء العربية، إذ تنشأ احتكاكات كثيرة بين المستوطنين اليهود وبين السكان الفلسطينيين، وقد انتهت غير مرّة بأحداث عنيفة واعتقالات وإجراءات قضائية موجّهة في غالبيتها ضد الفلسطينيين".
عندما سئل كاداريه في إطار المقابلة المذكورة أعلاه مع صحيفة "هآرتس" كيف تستوي قيمة الحرية التي تعبّر عنها "جائزة القدس للأدب" مع قيام الجهة المانحة لها بسلب حرية الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة؟، اختار الهروب إلى الأمام قائلاً: "في كلّ مكان أزوره عادة ما أسأل عن السياسة المحلية التي لا أفهم جلّهـا ولا أرغب في أن أحلّل تعقيداتها. مع ذلك، لا شكّ في أن ثمة تناقضًا بين القدوم إلى مكان بهدف الحديث فيه عن الفن والثقافة، في الوقت الذي يعاني فيه من عنف وحروب وإرهاب، لكنني لست ساحرًا ولا أعرف كيف يمكن إيجاد حل له"!.
من شأن كلامه هذا، أن يعيدنا إلى الواقع المختلّ عندما يكون الشيء الأساسي فيه هو "فنّ القصّ".
المساهمون