تجارب تعليمية في المغرب

03 ديسمبر 2014
التعليم يساعد على ترسيخ السلم الاجتماعي (Getty )
+ الخط -

تمثل لحظة إقرار دستور 2011، لحظة مميزة في النسيج الثقافي والاجتماعي، وخطوة لجعل التعدد اللغوي منصوصا عليه في المادة الدستورية، وهكذا يجري لأول مرة، التنصيص على الهوية المتعددة للمغرب، ويعترف بلغاته وبمكوناته المتعددة، متمثلة في العربية والأمازيغية والمكون والمكونين العبري والحساني.

وسبق خطوة الإقرار الدستوري، للأمازيغية كلغة وطنية، إنشاء المعهد الوطني للثقافة الأمازيغية، الذي عني بالدراسات الثقافية حول الثقافة الأمازيغية، وكان ظهير 2001 نقطة الانطلاقة في اتجاه إعادة الاعتبار لكل روافد الثقافة المغربية.

وتوج هذا الاهتمام بإنشاء المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية كحاضنة لكل النسيج الثقافي المغربي، وهو المرحلة الأخيرة في إرساء المؤسسات التي تعنن باللغات والهوية المغربية.


خطوات نحو تكريس قيم قبول الآخر

و قد عكس هذا الموقف إرادة سياسية حقيقية لتحويل التنوع الثقافي إلى رافعة للتنمية وضمان الاستقرار مما يحقق الانسجام الاجتماعي، واستدعت هذه الإرادة السياسية سلوكاً ديمقراطياً ومنهاجاً تطبيقياً وعملياً في تكريس التنوع والحفاظ عليه ونشر قيم التسامح والعدالة الاجتماعية والحرية. ومن أجل هذا قامت الحكومة بعدد من الخطوات الناجحة، من بينها: الاستفادة من الاستعمال الإبداعي للإعلام وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتشجيع الحوار بين مكونات الثقافة المغربية.


سبق دستوري

لا يمكن من حيث المحصلة النهائية فصل الاهتمام بالثقافة الأمازيغية عن رغبة صانع القرار السياسي في البلاد، بإعطاء وضع جديد لثقافة موجودة ضمن النسيج الاجتماعي المغربي، وقد كان خطاب الملك محمد السادس في مدينة أجدير، الأمازيغية، في الأطلس، إشارة لدخول موضوع الأمازيغية من مرحلة الشعارات إلى مرحلة التطبيق والعمل العلمي، وربما هذا هو التحدي الكبير الذي واجه نشطاء الحركة الأمازيغية والفاعلين في المجال العلمي والأكاديمي، بعد أن جرى في مرحلة لاحقة، إقرار الأمازيغية كلغة للتدريس مع العربية في المدارس المغربية.

كان الدستور المغربي الجديد لعام 2011 قد أقر بأن الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية في البلاد، وهو تحول تاريخي في التوجه العام لعلاقة الدولة بهذا المكون الثقافي.

ولا يجادل أحد في الخطوات الجريئة التي قامت بها الدولة لإنهاء ما يوصف بالقطيعة التي شهدتها العقود الماضية مع الثقافة المحلية، حتى وسط بعض الأصوات التي تعمل في المجال الجمعوي، والتي ترى بأن ذلك ليس كافيا.

المنطوق الدستوري

في الفصل 5 من الدستور المغربي الذي أقر في 2011، يشرح المنطوق الدستوري كل ما يتعلق بالإطار العام للهوية المغربية، ونورد هنا نص الفصل لسد الباب أمام أي تأويل، لأن المشرع الدستوري هنا، كان على وعي بأن المخاطر هي على العربية والأمازيغية في آن واحد، يقول النص الدستوري: "تظل العربية اللغة الرسمية للدولة.

وتعمل الدولة على حمايتها أو تطويرها، وتنمية استعمالها.

تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء.

يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية.

تعمل الدولة على صيانة الحسانية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة، وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب، وتسهر على انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم؛ باعتبارها وسائل للتواصل، والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة، والانفتاح على مختلف الثقافات، وعلى حضارة العصر.

يُحدَث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مهمته، على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية باعتبارها تراثا أصيلا وإبداعا معاصرا. ويضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات. ويحدد قانون تنظيمي صلاحياته وتركيبَته وكيفيات سيره".


تجاوز الأعطاب

بالرغم من أهمية الخطوات التي تم اتخاذها، إلا أن ترسيخ تلك القيم (التسامح – قبول الآخر – العدالة الاجتماعية) كلها مرتبطة بعملية التنشئة التي تقوم بها الأسر والمدرسة. ليس خافيا أهمية دور المدرسة في نشر ثقافة التسامح التي هي ثقافة الانفتاح على الآخر وأفكاره، ويعتبر النجاح الحقيقي، إذكاء رغبة الطلبة في معرفة المزيد ورغبتهم في الاطلاع على ما عند الآخر، مع قدرتهم على الانتقاء بما يتوافق وثقافاتهم.

من التجارب المهمة التي أطلقت في المغرب، في مجال تدريس اللغة الأمازيغية، تلك التي قامت بها "مدرسة.كوم"، بالنظر إلى الأهداف التي وضعتها لنفسها، وأيضاً من حيث النتائج والمخرجات والتي جعلتها من بين أهم التجارب المستحقة للجوائز الدولية.

ففي المغرب يعتبر الحصول على تعليم أساسي عالي الجودة في المناطق القروية الفقيرة، تحديا كبيرا للعديد من الأطفال وعائلاتهم، غير أن هذه المبادرة لمؤسسة البنك المغربي للتجارة الخارجية للتربية والبيئة جعلت الأمر ميسرا وفي المتناول، وذلك بعد تشييدها لمجموعة من المدارس التحضيرية والابتدائية المنسجمة مع الإرث المحلي والبيئة الثقافية، والتي تلعب اليوم دورًا حاسمًا في النهوض بالتعليم في العالم القروي والمناطق النائية من المغرب العميق، سعيا منها لتوفير جو مناسب لتمكين هؤلاء الأطفال من الحصول على فرصة مناسبة لتعليم ذي جودة غير منفصل عن المجال الحياتي الذي يعيش فيه المتعلمون.

توجهت مبادرة "مدرسة.كوم"، التي انطلقت في سنة 2000 إلى تعزيز التعليم ما قبل المدرسي والابتدائي، والنهوض بالبحث والابتكار البيداغوجي، ودعم الكفاءات المحلية لفائدة أطفال المناطق القروية، وذلك من أجل إدماجهم ثقافيا ولغويا مع باقي مكونات المجتمع المغربي، هذه التجربة ساهمت، إلى جانب تجارب جمعوية أخرى، في حل معضلة ضعف أداء الأطفال الأمازيغ في التعليم الابتدائي باستخدام لغتهم الأصلية في التدريس.


مبادرة مدنية

قامت "مدرسة.كوم" بإنشاء مجموعة من المدارس بكل جهات المملكة، بهدف تطوير التعليم في المناطق المعوزة من العالم القروي، وتثمين اللغة والثقافة الأمازيغيتين بإنشاء وتجهيز شبكة واسعة من المدارس العمومية، وأيضا من خلال وضع جهاز تربوي وبيداغوجي معاصر وناجع، يراعي التنوع السوسيو لغوي بالمغرب ويساهم في تطوير أداء المدرسة العمومية، وتحسين جودة التعليم بالمستويين ما قبل المدرسي والإعدادي استنادا إلى الميثاق الوطني للتربية والتكوين.

وبلغ مجموع مدارس شبكة "مدرسة.كوم" 63 مدرسة، في حين يبلغ عدد الوحدات ما قبل المدرسية (الروضات والملحقات التهييئية) 136 وحدة، إضافة إلى 3 مدارس في أفريقيا، في السنغال، والكونغو، ومالي، وهو ما يعادل في المجموع 202 مركب دراسي.

وتشكل هذه المدارس شبكة مرتبطة بالإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية، ويديرها منسق إداري، كما يبلغ عدد المعلمين ببرنامج "مدرسة.كوم" 420 معلما، يشرف على تأطيرهم 12 موجهًا تربويًا.

ويبتدئ البرنامج التعليمي في مدارس "مدرسة.كوم" بسنة تهييئية قبل سن التمدرس، وهي مفتوحة في وجه التلاميذ البالغة أعمارهم أربع سنوات ونصف، يليه برنامج تعليمي لمدة ست سنوات ينتهي بالحصول على الشهادة الابتدائية.


تنوع لغوي

تعتمد هذه التجربة على سياسة لغوية ناجعة، وذلك بتوفير أطر تعليمية تتقن اللغات المنطوقة في المناطق القروية الفقيرة التي شيدت عليها مدارس المؤسسة، ويتم التدريس خلال المرحلة الابتدائية بثلاث لغات: العربية، الأمازيغية، والفرنسية، تقول رشيدة التي تعمل معلمة في إحدى المدارس بنواحي مدينة ورززات جنوب المغرب، لـ "العربي الجديد": "الأطفال هنا لا يتقنون سوى الأمازيغية ويصعب في بداية مرحلة التدريس التواصل معهم بغير لغتهم"، وتابعت "يتوفر الأطفال على قدرة أكبر على التعلم عندما نتواصل معهم بالأمازيغية لغتهم الأصلية، فالمدرسة هي بمثابة جسر للعبور من البيت إلى حياة التمدرس".

من جهته، قال رفيق المسعودي مدير مدرسة وهدانة آيت نصار (تقع شمال شرقي المملكة المغربية إقليم الناضور، بمنطقة الريف) لـ "العربي الجديد" إن "برنامج "مدرسة.كوم" لا يرتكز فقط على التعليم في مفهومه المتداول، بل أيضا التعليم بمعنى أوسع بواسطة تطوير التنمية النفسية لدى الأطفال وإعدادهم للمستويات التعليمية الأخرى، وكذا تهييئهم لمعرفة الحياة بشكل عام" وتابع "نقوم بمتابعة الطلبة متابعة بيداغوجية منتظمة ودقيقة، بواسطة تكوين مستمر حتى مرحلة التخرج من أقسام الباكلوريا، فضلا عن مساعدتهم في اختيار توجهاتهم بالجامعة".


منهاج تعليمي حديث

يسهر القائمون على برنامج "مدرسة.كوم" على متابعة التلاميذ المتمدرسين خلال مراحل الدراسة الابتدائية والإعدادية حتى المرحلة الثانوية، كما يتم الاحتفاء بالمتفوقين من الطلاب في مستويات الباكلوريا، حيث شهد مقر المؤسسة البنكية التي يتبع المشروع لها، في سنة 2012 حفل تخرج أول فوج باكلوريا ترأسته ليلى بنمزيان بنجلون، رئيسة مؤسسة البنك المغربي للتجارة الخارجية للتربية والبيئة، والتي اعتبرت أن تخرج طلبة وحصولهم على معدلات متفوقة "يعد بصمة اعتزاز وافتخار بمبادرة مواطنة تساهم في تمدرس أطفال العالم القروي، وتتويجا لمسار دراسي ناجح لتلاميذ تمكنوا من الالتحاق بمختلف الجامعات بكل جهات المملكة لمتابعة دراساتهم".

مضيفة أن نجاح هؤلاء الطلبة "يشعرنا بالفخر، ويحفزنا على الاستمرار في تطوير مبادرتنا لفائدة التعليم في العالم القروي".

بالإضافة إلى ضمان جودة التعليم ما قبل المدرسي (المرحلة التهييئية)، والمتابعة البيداغوجية المنتظمة والدقيقة، والتكوين المستمر للطلبة، يشكل إدخال تكنولوجيات حديثة واعتمادها في العملية التعليمية أحد أهم المرتكزات التي تقوم عليها السياسة التعليمية بـ "مدرسة.كوم"، تقول مريم مدرسة بمدرسة بوسكورة في مشروع "مدرسة.كم" إن "استخدام ألواح الكتابة التفاعلية الرقمية والكمبيوتر يجعل الحصة التعليمية تمر بشكل أفضل، لأنه يجذب انتباه الأطفال ويحفزهم على التعلم بشكل مستقل".

يخصص برنامج "مدرسة.كوم" بالإضافة إلى التعليم النظامي الموجه للأطفال المتمدرسين، حيزا مهما من الدعم التربوي والاجتماعي لفئات أخرى من المجمتع المغربي، ويتعلق الأمر بالدعم التربوي الموجه للأمهات والفتيات الشابات غير المستفيدات من التعليم المدرسي، عبر حصص لمحاربة الأمية وبعض الدورات الوظيفية التي يستفيد منها حتى الشباب والرجال على حد سواء، من خلال محو الأمية والتدرب على المشاريع المدرة للدخل وتمويل القروض الصغيرة.


اعتراف عالمي

حظي برنامج "مدرسة.كوم" باستحسان كبير على المستوى الوطني والدولي أيضا، حيث حصل على مجموعة من جوائز التميز في مجال التربية والتعليم، كان من أبرزها حصوله على جائزة "وايز" لسنة 2013 بمؤتمر القمة العالمي للابتكار في التعليم الذي انعقد بتاريخ 29-31 أكتوبر/تشرين الأول 2013، في مركز قطر الوطني للمؤتمرات بالدوحة بمبادرة من مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع وتحت إشراف الشيخة موزا بنت ناصر المسند، وتحت شعار "إعادة بناء التعليم من أجل الحياة"، هذا المؤتمر الذي يمثل المبادرة الدولية الوحيدة للابتكار في التعليم، التي تشجع على التعاون وتبني مناهج جديدة عبر قطاعات متنوعة، لتكريم أحدث الممارسات والمساعدة في نشرها على نطاق عالمي، كما يؤمن بضرورة الابتكار في ثلاثة مجالات ذات أولوية هي التعلم للجميع، والتعلم من أجل الحياة، والتعلم في كل زمان ومكان.

وقد تم اختيار مشروع برنامج "مدرسة.كوم" للفوز ضمن الجوائز الست الأولى للمؤتمر، حيث قامت لجنة مؤلفة من خبراء في التعليم باختيار الفائزين من ضمن 14 مرشحا تأهل إلى المرحلة النهائية. وكانت قد قدمت هذه المشاريع تأثيراً ملموساً وإيجابياً على المجتمع وحلولاً مبتكرة لمواجهة تحديات التعليم.

المساهمون