البوابة مفتوحة

16 ديسمبر 2014
+ الخط -
في معرض حديثه عن الرسائل التي تصله، وتتضمّن استفسارات حول بعض أعماله أو أعمال غيره، يتوقّف هيرمان هيسه عند رسالة بعينها، يلحّ مرسلُها في طلب الإجابة عن سلسلةٍ من الأسئلة تتعلّق بفرانتز كافكا، من نوع : هل يعدّ أعمال كافكا "القلعة" و"المحاكمة" رموزاً دينية ؟، وهل يتّفق مع الرأي القائل باقتصار نوايا كافكا في كتابته على يهوديته؟، وأسئلة شبيهة أخرى. 
يوضّح هيسه في ردّه على هذه الرسالة، أن قصص كافكا ليست بحوثاً في الدين أو الميتافيزيقيا أو الأخلاقيات. لكنها أعمال إبداعية تخييلية، وأن من يسعى إلى "استخلاص الأفكار والمعلومات والحكم من نصّ شعري أو قصصي، فإنه إنما يسعى إلى القليل القليل، ويفقد الجوهر الأصيل في كلّ عمل إبداعي.

ليس لدى كافكا ما يقوله لنا، كلاهوتي أو فيلسوف، لكن لديه ما يقوله كشاعر. لقد قدّم لنا أحلاماً ورؤى عن شعوره بالوحدة والعزلة، عن آلامه ولحظات هنائه، عن تجاربه الحياتية الصعبة. وهذه الأحلام والرؤى هي ما علينا أن نبحث عنه في أدبه". ثمّ يبدي هيسه أسفه على أولئك الذين يكدّون في حصر المبدع ضمن مفاهيم وأطروحات يرتضونها أو يرفضونها، مؤولين أعماله بما تمليه عليهم ميولهم واعتقاداتهم ورغائبهم، إذ سيظلّون غرباء عن العمل الفني، ولن يجدوا طريقهم إلى قلبه. 

"إنهم يقفون عند البوابة عابثين بمئات المفاتيح، من دون أن يلحظوا أن البوابة، في الحقيقة، مفتوحة!". 

في السياق نفسه، نذكر شكوى محمود درويش، في لقاءٍ صحافي قديم، من ظلم القرّاء له، وتنميطهم لشعره. إذ لا يكفّون عن كتابته كما يريدون، وتتحوّل قراءاتهم له إلى كتابة أخرى تكاد تمحو ملامحه. ويبيّن أن سوء الفهم هذا، يُمارس عليه وعلى شعره، ليس من القارئ أو المتلقي العادي وحسب، بل أيضاً من النقّاد. ففيما يوجّه مسارات قصيدته في اتجاه جمالي وثقافي وإنساني، يأبى النقد إلا حشره في الضيق السياسي والوطني، عبر تأويلات محدّدة ومحسومة ونهائية لشعره. 

شكاة درويش هذه، تعيد إلى الأذهان شكاة ماياكوفسكي، وهو يلقي كلمة وداعه، قبيل انتحاره، إلى الجماهير التي ما تني تطالبه أن يعيد على أسماعها ما تعرفه وتؤمن به، المرّة تلو الأخرى، من دون أن تترك له حريّة "أن يشعر"، أي أن يكتب ذاته الحميمة والمتفردة، لا بما هو شاعر أيديولوجي أو جماهيري، ولا بما هو حامل أفكار وداعية قيم و طروحات، بل بما هو "شاعر" وحسب. 

لا أسوق هذه الأمثلة ؛ كافكا، درويش، ماياكوفسكي، بقصد الترادف و التماثل، فأنا أعي ما بينها من اختلاف، بحكم طبيعة كلّ واحد منها وظرفه التاريخي والاجتماعي والحضاري. لكن البرهة المشتركة بينها هي ما يعنيني، وهي تتمثّل في تشوّش التواصل بين المبدع والمتلقي، لأسباب عديدة ومتباينة، أوجزها درويش في الحوار المذكور بجملة عميقة الدلالة : "انعدام القراءة البريئة". 

يباشر المتلقي النص الشعري بغايات مبيّتة، وأحكام نافذة، شكّلها ونسقَها وعيه المنعقد بمزاجه ورغباته، وعيه الممنهج وفق فكرة مؤدّاها أن مهمّة الشعر تنحصر في التعبير عمّا يعجز هو – المتلقي – عن التعبير عنه، لذلك نراه يستنكر أي شعر لا يلبّي حاجته تلك، لغةً أو رؤيا أو موسيقى، ويسمح لنفسه، في حال كون الشاعر مشهوراً أو محبوباً، أن يلوي أعناق القصائد نحو معانٍ ومدلولات موافقة لهواه، وما همّ لو انقصفت تلك الأعناق، وما همّ لو انفجر الشاعر قهراً ! 
لا عجب، والحال هذه، أن يطلب كافكا نفسه، عدم نشر ما خلّفه من مؤلّفات، مبديّاً رغبته في القضاء عليها قبل موته. ولا عجب أن يقدم رامبو على إحراق طبعةٍ كاملةٍ من كتابه "فصل في الجحيم"، بعد أن اشتعلت في نفسه، ثورةُ شكّ من قدرة الآخرين على قراءته القراءة الصحيحة. 
ويصبح مفهوماً إحراقُ أبي حيان التوحيدي مؤلّفاته، خشية "من قومٍ يتلاعبون بها"، ويفسرونها كما يشاء لهم هواهم.
المساهمون