باية، غرابة الإبداع المتفرّدة

01 ديسمبر 2014
+ الخط -
باية الجزائرية، التي وقف أندريه بروتون وجورج براك أمام أعمالها في حيرةٍ من فكرهما، ومحمّد بن إدريس اليعقوبي، عبارة عن عوالم أشبه بالنجوم السائرة التي تخترق ركودَ مستنقع الفنّ العربي، فتمنحه سماوات جديدة وأوردة ودماء ليست بأقل جدّة.

منذ البداية كان لباية صدىً في المحافل الفنّية الدولية وبين الفنانين والنقّاد والمفكّرين العالميين، بحيث إن بصمتها غيرت النظرة إلى الفنّ العربي ومنحته طابعًا جديدًا ومسالك مغايرة. 

لم يكن لباية (فاطمة حداد، 1931-1998)، أن تحلم بمصير فنّي مجيد كذلك الذي صادفته وهي لا تزال يافعة. فهذه الصبيّة الجزائرية التي كانت تختلي بنفسها كي تشكّل الأحجام بكلّ المواد التي تقع تحت يديها، صادفتْ في طريقها العديد من الذين أعجبوا بعملها، كان أغلبهم من المقيمين في الجزائر وفرنسا، فألهموها ودعموها واحتضنوها هي وعوالمها العجيبة. 

حين فقدت الصبيّة أبويها راحت لتعيش لدى جدتها في إحدى المزارع الاستعمارية الكبرى. هناك أطلقت العنان لمخيّلتها، كما لتستعيد عوالمها المفقودة. وبين النحت والتشكيل، خاضتْ الفنّانة العصامية تجربةً فريدةً ومتميزةً قادتها إلى العرض في باريس سنة 1947 وهي ابنة السادسة عشرة، فكانت الحدث، ولاقتْ اهتمامًا لم يلاقه فنّانون عرب آنذاك. 

في هذا المعرض الأول أذهلت باية محيطها المباشر والفنّي، ليس فقط بعالمها المتفرّد الخارج عن المألوف، بل أيضًا وخاصّة بلمستها الجديدة وطريقة رسم شخصياتها، واختيارها للألوان والفضاءات والعوالم التي تمنحها للرائي.

كان الشاعر والمفكر السريالي أندريه بروتون أوّل من عبّر عن دهشته الكبرى، حين كتب عن باية بعد مشاهدة معرضها: "ها هو الآن بعيدٌ عنا هذا العالم العتيق الذي يُقال عنه من باب المحاباة إنه عالم متحضّر، هذا العالم الذي بدأ يفقد أنفاسه... الرغبة الإنسانية لدى باية تظلّ هي في حالها الخالص لا تقبل لإشباعها بأي حاجز، تنساقُ بلا معيقٍ لضرورة تحقّقها... باية التي تتمثّل مهمتها في أن تشحن من جديد بالمعنى هذا الكلمات الحنينية الرائعة: بلاد العرب السعيدة. باية التي تمسك بالغصن الذهبي وتجدّد حياته". 

حين تفوّه بروتون هذه الكلمات، كان دوبوفي قد أطلق من سنتين فقط اسم الفنّ الخام على صنف جديد من الفنّ الغريزي، تمييزًا له عنه وسعيًا نحو الانفلات من الطابع القدحي للمصطلح، الذي سيجد صيتًا كبيرًا، بحيث سيعوض تدريجيًا مصطلحي الغريزي والساذج. 

عالم باية البصري لا يمكن أن تخطئه العين. إنه عالمٌ أنثوي بامتياز، تتشابك فيه بصمات الفنّانة وكأنها توقع في أنحاء لوحاتها من غير أن تكتب اسمها. هذا التفرّد هو ما يمكن أن ينطبق بشكلٍ كاملٍ على ممارستها الفنّية. لا ترسم باية غير النساء، وكأنها بذلك تستعيد طفولتها من ناحيتين: صباها في كآبته وتوحده، وأمها التي فقدتها في وقتٍ مبكر فظلّت تسكن مخيلتها في شكل نقصانٍ فظيعٍ للحنان. 

هذا العالم الذي تؤثثه النساء يتأنثُ فيه كلّ الشيء: الشجر والورد والطبيعة والطيور. إنه عالم كاشفٌ لجنان المخيلة، تزدهي فيه كلّ الأشياء بصدى الأنوثة. إنها شهرزاد أخرى تحكي من غير أن تحاكي، تنسج من الكائنات المرئية تسلسلًا متناضدًا ومتشابكًا من الحالات لا مجال فيها لفضائية المنظور. إنه عالم تتوالد الأشياء وتحيا من جديد، وكأننا نراها لأوّل مرّة. 

الطابع الخلاق لباية، يتجلى في كونها لا تسقط في الفطرية المحضة، أي في الحكي المشهدي للوضعيات التي قد ننعتها بالإثنوغرافية. فهي لا تكاد تطلق الحكي حتّى يتحوّل هذا الأخير إلى ضرب من الإيحاء وإلى مزيج من الرمزية المبطنة والنظرة الجمالية المحضة. يتبدّى ذلك من خلال التركيبة التي تتخذها تأليفيًا شخصياتها سواء أكانتْ حيوانات أم نباتات أم أشياء. 

كلّ شيء في عالم باية ينضح بالبهاء. نساؤها مسربلات في أرديةٍ مزخرفةٍ بشكلٍ لا يضاهى، ونباتاتها وأصصها تكادُ تخرج من حضارة زخرفية عتيقة. أمّا الآلات الموسيقية فلم تدخل عالمها وتنطبع بأنثويته الصادحة إلا بعد زواجها من الموسيقي محيي الدين. ووجوه كائناتها كلّها نكاد نخالها رؤوس طير وعيونها عيون نسر.

وكأن جنان باية خارجة للتو من فردوسٍ مستعادٍ، تقدّمه لنا في شكله السماوي. أو لكأننا مدعوون دومًا لنعيش في حدائقها، تلك متعة الإطلالة الدنيوية على فردوسٍ نابعٍ من خيال امرأة يمتزج في بواطنها الحزن والحنين والانطواء على النفس، بالثراء الحامل لطفولة أبدية. 

باية، كما العديد من الفنّانين غيرها، من المغمورين أو من المستبعدين والغريبين، يشكّلون بصورة ما الوجه الخلفي لهوية الفنّ العربي (العربي هنا جغرافيًا لا عرقيًا). وإذا كان الفنّانون والمثقفون العرب في مرحلة ما، قد عدّوا هذا الضرب من الإبداع وليد الكولونيالية، فإنهم اعترفوا في ما بعد (أي بعد انقشاع غيوم القومية العربية) بما ترفد به هذه التجربة، التشكيلَ العربي بأبعاد طفولية وتخييليّة بالغة الأصالة والجدّة، وقريبة من العمق الأولي للإنسان.
 
إن هذا "السهل الممتنع" الذي تغنّت به البلاغة العربية، يجد موطئه وموطنه هنا، في ذلك التفاعل الخلّاق بين الذات والموضوع الذي سعتْ الحداثة الفكرية إلى عقلنته، وصرنا نراه يعود مع التعامل الخام والمتفرّد الذي بدأ يعتمده العديد من الفنّانين المعاصرين، إلى حدّ استعادة الرسم الطفولي بجميع أشكال تمظهره. إنها تجربة يمكن عدّها بشكلٍ ما مدخلًا ممكنًا لهويةٍ تشكيليةٍ تكون كونية بقدر ما هي محلية. 

باية إذن، درسٌ عميقٌ لكلّ من لا يزال يعتبر أن التكوين الأكاديمي لوحده يمكن أن يمنحنا فنّانين حقيقيين!
المساهمون