من صالات العرض إلى السوق والمزادات

25 نوفمبر 2014
+ الخط -
نحن المتعففون في أمورِ المال والعقارِ واليسر، لِمَ نقف فاغري الفاه أمام التحولات التي طرأتْ على الممارسة الفنية في العقدين الأخيرين؟ حتّى إننا نهمس لأنفسنا؛ لِمَ تعفّفنا في أوقات مضتْ عن اقتناء اللوحات؟ ولِم رفضنا الهدايا من هذا الفنّان أو ذاك، مع أننا كنّا نعلم علم اليقين أن نجمَه سيسطع؟ لو فعلنا، لكنّا ربما حميْنا أنفسنا من حرّ هذا الزمن وقرّ الحياة فيه، ولفحات غلائه الفاحش، لكن الأمور لا تجري إلا بما يحكمها من منطق.
لا تمسُ هذه التحولات فقط أنماط التشكيل وخروجه من الحيّز التقليدي صوب الحيزيْن؛ العامّ والخاصّ، بل تمسّ أيضًا تصوّرنا للعمل الفنّي، خصوصًا أنماط تداوله وأشكالها وقيمها. ما تغيّر بالأساس هو نوع النظرة لقيمةِ العمل الفنّي ولعلائقه بالعالم وبالمبدع.
صار أصحاب صالات العرض (الرواق) يتصيّدون الفنّانين الشباب من مدارس التخرج، ومن حضورهم الأوّل في الساحة الفنية ليدخلوهم إلى حظيرة السوق مانحيهم الوهم بالاستقرار المادي والرواج الدولي. ما الذي يحدث في حالةٍ مماثلةٍ؟ إنها صدمة المردود المالي للعمل الفنّي بالنسبة للفنّان الذي يجد نفسه في حالة احترافية تجعله لا يهتم إلا بعمله، وهو ما يتمناه كلّ فنان طبعًا؛ ثم تسويقه في البينالي وأسواق الفنّ العالمية التي تحبذُ الغريب والعجيب والإكزوتيكي من جهة صاحب الصالة، "الرّواقي" (لا بالمعنى الفلسفي!)، الذي يهتم بكافّة الأشكال، وبكلّ ما يخوله له العقد المبرم مع الفنّان. هكذا صرنا نعيش المصير العالمي الجديد للفنّ: صالة العرض أو الرواق هو الذي يخلق الفنّان.
لستُ من الذين يقفون ضدّ هذه البنى التسويقية والاستحواذية. فالعلاقة بين القيمتين الرمزية الجمالية، والمادية للعمل الفنّي، لا تستوي إلا بهذا الثالوث كاملًا مكتملًا. وإن كان الجانب التداولي لا يخضع دومًا للقيمة الجمالية، فإنه يمتحُ منها وجوده. شهدنا ولادة تلك البنى ونموّها في بعض الأروقة (الصالات) المهتمة بالفنّ الإفريقي والشرق أوسطي في بعض العواصم الغربية، خاصة باريس وبرلين، ثمّ شهدناها تستقرّ في الدار البيضاء والقاهرة وبيروت ودبي وأبوظبي وتونس. ثمّ عشنا ولادة فروع لدور المزادات الغربية الكبرى مثل كريستيز وسوثبيز في بعض بلدان الخليج.
وإذا كانت الصالات المحترفة في الغرب تمنح الفنانين العرب، قيمةً وموقعًا في السوق الفنية العالمية، فإن العديد من الصالات تساهم في منح هذه القيمة والمكانة لفنّانيها المحليين من خلال عرضهم وتسويقهم، ثمّ من خلال إنتاج كتالوجات جيدة لأعمالهم ومعارضهم. ولا يخفى أن هذه الصالات لا تكتفي بذلك، بل تعمل على تسويق تلك الأعمال وضخّها في أماكن المجموعات الفنية الكبرى كما في المتاحف العربية، لتمنحها المكانة التي تسمح لها بالتسويق أيضًا في المحافل الغربية.
هذه القيمة الأوّلية تعضدها بشكلٍ واضحٍ القيمة "المزادية" إن لم تدفع بها أشواطًا قُدُمًا، خاصّة حين يتعلّق الأمر بأسماءَ معيّنة. فما تحقّقه الأعمال العربية في مزادات كريستيز وسوثبيز، ينعكس على تداولها محليًا. بل إنّ الطفرات التي تحققّها من حين لآخر بعض الأعمال الفنية (لمحمود سعيد أو محمّد المليحي) مقارنةً مع قيمتها "المفترضة"، تشكّل ما يشبه الصفعة للأسواق المحلية، التي تضطر إلى إعادة النظر في تداولاتها. بيد أنّ العكس قد يكون صحيحًا، مثل ألّا تمنح بعض المزادات القيمة الحقيقية لفنّانين معروفين، مقابل النفخ في "تثمين" أعمال بعض الفنّانين المتواضعين لأسباب لا يمكن إلا أن نخمّن أحيانًا من يقف وراءها. يمكن تسمية هذه الاعتبارات "أحوال الطقس التداولية" للفنّ العربي، التي تصنعها أحيانًا أمزجة المؤسّسات وأحيانًا أخرى عناصر لها علاقة بما ينتظره السوق العالمي من الفنّ العربي.
مهما سعى هذا الفنّان أو ذاك، إلى الانفلات من سوق الفنّ، فإنه يظلّ بشكلٍ أو بآخر مشدودًا إليها ومرهونا بتذبذباتها. وإذا كان بعضُ الفنّانين المتواضعين يجدون في أسواق بلدانهم من الرواج والتداول ما يعجز عنه فنّانون مبدعون، فإن هذا التنافر (أو بالأحرى عدم التكافؤ) بين السوقين المحلية والعالمية، يطرح مسألة البعد العالمي لفنوننا التشكيلية العربية.
ثمّة إذن منطقٌ ثنائي يحكم حاليًا سوق الفنّ العربية: منطقٌ ذاتي ينبئ عن حداثتِها العمْرية وهشاشتِها؛ ومنطقٌ غيري (استيطاني إذا شئنا) ينبئ أن هذه السوق هي جغرافيًا امتدادٌ للسوق العالمية.
إلى أي حدّ تتوافق السوق العربية في "منطقها" الثنائي هذا مع السوقِ العالمية؟ أثمّة توافقٌ في الإيقاع بين السوقين أم استقلالٌ يجعل قيمَ السوق لدينا غيرَ قابلة للتداول العالمي؟
لا يخفى أن المزادات العالمية تؤقلم استراتيجيتها مع المعطيات المحلية، قصدَ خلقِ الحدث. فليس للسوق من استراتيجية إلّا الربح، وهي من ثمّ تكتيكية بالإطلاق، أي قابلة لأن تُخلخل كلّ ما تعارفنا عليه: كأن تمنح فنّانًا مغمورًا، لدوافع مجهولة أحيانًا، فرصة الانطلاق بشكلٍ صاروخي، أو كأن تراهن على فنّانٍ متواضعٍ، فتخصّ عمله بـ "سعرٍ عامي".
ثمّة فنانون يمرّون في المزادات المحلية ولا يتجاوزونها كي يسموا الفنّ في بلدانهم وفي العالم العربي. وثمّة فنانون لا يصلون إلى المزادات، غير أن بصمتهم في تاريخِ الفنّ محليًا وعالميًا لا تُمحى. وفنّانون يحملون بشكلٍ مزدوجٍ عمقهم الفنّي وقيمة تداولهم. السوق سوقان؛ سوقٌ آتية لنا من الخارج بمنطقها ومعروفها ومجهولها، وسوقٌ نابعة منّا باختياراتها ورهاناتها. وبين الاثنين؛ الحاجة الماسّة إلى قوّة وسيطة أخرى تمارس الموازنة التاريخية: إنها النقد والتعليم الفنّي والتأريخ للفنّ. فالسوق وحشٌ كبيرٌ يتحوّل أحيانًا إلى تنين وأحيانًا أخرى إلى رافعة، وعلى النقّاد ألا يهابوا نيرانه وأن يواجهوه مواجهة القديسين، بشراسةٍ وحكمةٍ في الآن نفسه.
المساهمون