تدجين ذاتي

22 سبتمبر 2015
لوحة للفنان القطري سلمان المالك
+ الخط -
يطلّ المرء على موقف المثقّفين العرب، ولا يُسرّ ممّا يرى. ويقيس المساحة التي يتحرّك خطابهم فيها، ولا يسرّ مما يرى. ثم يقارنها بمساحة غيرهم من المثقفين في العالم، فلا تبدو الأمور في العمق مدعاة للسرور. قليلون هم اليوم من يتجرأون على القول من دون حسابات "مخصوصة" تفصح إلى هذا الحدّ أو ذاك عن موقفهم السياسي أو بصورة أدّق عن دائرة الاستقطاب السياسي التي هم في دائرتها واقعون. إطلالة ولا شكّ تعيدُ سؤالًا مكرورًا عن دور المثقف.
قال مرة، ضيف "ملحق الثقافة" لهذا العدد الكاتب التركي نديم غورسيل، إن "من المؤكد اليوم أن الكتّاب لم يعودوا يرمون في السجن، كما كان حال ناظم حكمت الذي أمضى زهاء ستة عشر عامًا في زنازين الأناضول، إلا أنه يتمّ بشتى الوسائل دفعهم صوب الرقابة الذاتية. نشهد اليوم تجريفًا سلطويًا خطيرًا".
وإذ عاد المرء إلى الأيام التركية في حياة ناظم، لهالته هذه الحقائق؛ مجرد قراءة هذا الشعر تؤدّي إلى السجن، مجرد حيازة أحد كتبه تؤدّي إلى السجن. فضلًا عمّا تعرّض حكمت له شخصيًا من عسفٍ وظلم: التجريد من الجنسية والسجن والموت في المنفى.
من نديم إلى ناظم، تظهر التقلّبات الخطيرة للثقافة عامّة. وكيف كانت أمورها في بداية القرن العشرين وصولًا إلى اليوم. مسافة هائلة، قطعتها "حرية التعبير". إلا أن الأمور ليست بخير، وليست كما تظهر، لا عند الوهلة الأولى ولا بعد التمعّن. ولن تكون المقارنة بين الشرق والغرب إلا سبيلاً جديداً صوب درب اليأس وقبر الأمل، فكلام غورسيل يعني أن "تدجينًا ذاتيًا" طغى.
وقد تبدو استعادة قصائد حكمت أدنى إلى التزيّن بتاجٍ ذهبي لم يعد رائجًا، من حيث هي تفصح عن صورته، هو الذي ظلّ حتى عمر الستين محتفظًا بعنفوان ما اعتقده من أيام شبابه المتمرّد الثائر. صورة هي أدنى إلى المغامرة والتهوّر، فمن هو الذي يستطيع اليوم أن يقول: "الجيش يخاف الشعر"، كما قال حكمت ساخراً في مواجهة اتهامه بالتحريض على الجيش؟
يروي صديقه التشيلي بابلو نيرودا في مذكِّراته "أعترف بأنني قد عِشت"، كيف جرت محاكمة ناظم على ظهر بارجة عسكرية، وكيف "قاوم" الذّل، إن جاز التعبير، "عبر إلقاء قصائده: فهم يريدون أن يروني أتداعى، يريدون أن يروني تعيسًا بائسًا. فانبعثت قواه في أنفة وعنجهية وبدأ يغني".

اقرأ أيضاً: توجيه المعاني

كان ذلك في عام 1938، حين أُودِع حكمت السجن التركي لأزيَد من عقد، ثم أُطلق سراحه إثر موجة احتجاج عالمية وحملة واسعة للإفراج عنه نظّمتها لجنة في باريس. لجنة باريس الشهيرة هذه، ما كان لها أن تنعقد ربّما لولا الشاعر الفرنسي لويس أراغون الذي دبّر طريقة للحصول على قصائد حكمت المهرّبة من السجن، لينشرها في أفضل المجلات الثقافية الفرنسية. القصائد المهرّبة قدحت زناد تأليف تلك اللجنة التي كان من أعضائها بابلو بيكاسو وجان بول سارتر الذي رثى حكمت عند وفاته قائلاً: "إن أشعار ناظم حكمت ستعمل على حمايته من النسيان. لقد انتزع ناظم نفسه من القبر بكلّ كلمة كان يكتبها".
وهذا صحيح، انتزع ناظم نفسه من القبر، وظلّت كلماته تلهم كثيراً من المستضعفين، على رأسهم بالطبع الشعراء والكتّاب وأهل القلم. فعالم اليوم بِسمَتِهِ الواضحة: توحّش العولمة والرأسمالية الذي نراه ماثلًا في كل شيء، في الأخوّة بين رأس المال والاستبداد، اللذين يظهران عند كلّ خبر في نشرة الأخبار. فليس غريبًا اليوم ولا مستهجنًا أن يرى المرء أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة في وسائل الإعلام، معجبين بأنفسهم، إذ يدلون بدلوهم في السياسة، وكأنّ هذا ما كان ينقصنا.
تبقى الكلمات وحدها، دليل الناس صوب الحق في الحياة الكريمة، وهذا التعبير الأخير يرنّ ضعيفًا وقد يسهل ابتذاله من قبل الكثيرين. إلا أنه أحيانًا يحدث أن تتمتع الكلمات المقموعة والمهمّشة، بضوء داخلي، فتأتي من مناسبتها البعيدة صوب الحاضر. كذا ما كان ممكنًا لما يحدث في شوارع بيروت اليوم، إلا أن تنير كلمات سمير قصير درب الناس: "عودوا إلى الشارع أيها الرفاق، تعودون إلى الوضوح".
لكم تصلح مسيرة سمير قصير، أمثولة رمزية، من حيث هي تتقاطع مع تلك المفاصل الكبرى التي تموج في ذهن مثقّف حقيقي من هذا الطراز؛ باحثًا لامعًا، وصحافيًا شجاعًا، وثائرًا مع الناس في الساحة. كان سمير مدركًا تمام الإدراك تلك الحواجز العميقة التي تحول دون الحياة الكريمة في لبنان؛ تضافر الاستبداد (بنوعيه؛ الوطني والمجاور) مع رأس المال، تحت مظلّة "الطائفية" التي تتيح للسلطة، كلّ سلطة، إشهارها في وجه الناس.
المساهمون