قصة قصر!

30 يونيو 2015
لوحة للفنان الأردني محمد الجالوس من مجموعة ذاكرة.
+ الخط -
يبدو لي أن كثيرين من القرّاء انكشفوا على قصّة قصر نويشفانشتاين، الذي يقع في جنوب ألمانيا، بالقرب من هوهينشفانغاو وفوسين جنوبي غربي ولاية بافاريا، غير بعيد من الحدود النمساوية. ويعني اسم القصر حرفياً "حجر البجع الجديد"، وسُميّ بذلك، نسبةً إلى فارس البجع لوهينغرين، إحدى شخصيات أوبرا للمؤلف الموسيقي فاغنر.
تقول القصة إن الملك لودفيغ الثاني ملك بافاريا، الذي عُرف باسم "الملك لودفيغ المجنون" بدأ ببناء القصر في نهاية القرن التاسع عشر، كي يكون قلعةً يلوذ بها وقت الحاجة. وقد صمّمه المهندس كريستيان يانك واستغرق بناؤه سبع عشرة سنة. وتمت إزاحة لودفيغ الثاني من العرش، قبل انتهاء فترة بناء القصر وتأثيثه، لكونه قام بتبديد أموال الدولة على بناء القصور وأمور أخرى غير ضرورية برأي معارضيه. وبعد موته بطريقة غير معروفة حتى الآن، تمّ فتح أبواب القصر للجمهور العريض.
وتتابع القصة أن الكثير من الروائع الفنية المرسومة على جدران القصر، تمّ استيحاؤها من أعمال فاغنر، الذي كان لودفيغ الثاني مولعًا به وبأعماله. ولدى موت هذا الأخير، جرى استكمال تزيين أربع عشرة غرفة فقط من غرف القصر الثلاثمئة والستين، وبقيت الغرف الأخرى خالية من أي أعمال فنية أو أثاث.
تحيل قصة هذا القصر وبانيه أوّل شيء إلى قوله تعالى "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة".
لكن فضلاً عن ذلك، تُحيل أيضاً إلى مسائل أخرى دنيوية ما تزال توحي بأشياء عديدة مرتبطة بما هو مستمر في الراهن.
وفي صدارة هذه المسائل مسألتان:
الأولى؛ أنه لا معنى للبحث عن أسباب "استقرار" الطغاة المستبدين من دون ملاحظة وجود رأي عام يدقّ لهم الطبول، ومن دون ملاحظة وجود مزاج شعبي لا تبهظه الإجراءات التي يقومون بها حتى لا نقول تدغدغه.
سُئل كاتب أميركي لاتيني ذات مرّة في ما إذا "يمكن القول إن الشعوب والطغاة يتقاسمون المسؤولية عن الأنظمة الاستبدادية"؟، فاكتفى بهذه الإجابة: "هل كان باستطاعة فرانكو أن يكون موجوداً من دون الإسبانيين؟ وهتلر من دون الألمان؟ وماو من دون الصينيين؟".

اقرأ أيضاً: قوة الكلمة، قوة متخيّـل الأدب

وتابع قائلاً: "بإمكان جميع الشعوب في بداية أي نظام استبدادي أن تقاوم. لكن الحقيقة أن أغلب الدكتاتوريين ينجحون، لبرهة، في جذب وإغراء أكبر شريحة من الجماهير. وإذا ما استثنينا الدعم العسكري، نجد أن الطغاة يأتون لأننا نطلبهم. كان تروخيو(رافائيل ليونيداس تروخيو مولينا) شعبياً جداً إلى درجة أن الشعب الدومينيكي لو كان التقى القتلة ليلة اغتياله لافترسهم... ما أريد توضيحه أن الدكتاتورية ليست فقط الإذلال والتعذيب والقهر، إنما هي أيضاً انهيار بطيء لمجتمع بأكمله".
وتتعرّض هذه المعادلة إلى الاختلال بفعل ديناميكيات اجتماعية وثقافية وسياسية، تخترق مجموع المجتمع بدءًا بسلّمه الأدنى. وهي الديناميكيات عينها التي يؤكد عالم الإثنولوجيا والأنثربولوجيا فرانك ميرمييه في سياق الحوار المنشور معه هنا، ضرورة التوقف عندها لدى دراسة المجتمعات العربية، نظراً إلى أن عدم دراستها يعني استبعادها الناجم عن استهتار أرعن بالإنتاج المعرفي العربي.
المسألة الثانية، يسترعي الاهتمام في الآونة الأخيرة أن هناك مزيداً من الأبحاث حول اللغة، وأساساً إلى ناحية استكشاف كيفية تحوّلها إلى ديناميكية جذرية في واقع استلابي شامل تهيمن عليه المؤسسة الحاكمة. والأساس الفرضي لبعض هذا الأبحاث أن المنظور الدلالي للغة قد يصبح قريباً جداً من "رؤية أيديولوجية" للهيمنة المؤسساتية في وقت يغدو فيه ادعاؤها الوحيد أنها جادّة في البحث عن مخرج من المأزق أو عن منفذ للخلاص.
لكن ما علاقة ذلك بخطر انهيار المجتمع؟
يمكن العثور على جواب شاف لدى المفكر ثيودور أدورنو الذي درس العلاقة بين الفاشية واللغة، ومما كتبه في هذا الخصوص: "إن الفاشية لم تكن مؤامرة فحسب، وإن كانت أيضاً شيئاً من هذا القبيل، وإنما نجمت بالأساس عن نزعة تطور اجتماعية جارفة. واللغة تتيح لها ملاذاً. ففيها - أي في اللغة - تنعكس الكوارث المستمرة كما لو أنها الخلاص المشتهى"!.
مع ذلك، بمدى ما إن هذه الأبحاث لدينا، تفيد في تشخيص أمراض تنخر جسد مجتمعنا العربي، فإن واقعنا لا يتناسب طرداً مع ما ينبغي أن يستحضره هذا التشخيص الزخم من أوضاع العلاج الجذري، بالتأكيد من جانب الهيئات الرسمية، ولكن أيضاً من جانب مؤسسات المجتمع المدني بكيفية ما.
المساهمون