في رثاء البقر

23 يونيو 2015
لوحة للفنان التونسي رؤوف الكراي
+ الخط -
في كل قطارٍ أعبرُ فيه الريف الفرنسي، منذ يوم وصولي للدراسة قبل بضعة عقود، يستحوذُ على ناظري منظرُ البقر الفرنسية وهي تستلقي بسدر وخمول في الحقول المترامية. تجترّ غذاءَها بهدوء، تحملق بالقطارات التي تعبر قربها بعدم اكتراث، تهزُّ رأسها بإيماءات فاترة، وتنام معظم الوقت. طالما وجدتُ نفسي، بلا وعي، أقارن بين هذه البقر "الضاحكة" المكتنزة بأطنان اللحم، وهي تتمرّغ وترتع في مزارع تطفح بالخضرة والرغد، وبين البقر اليمنية التي تستعرض هياكلها العظمية تحت سماءٍ قاحلة. كنتُ كمن يقارن جسد مصارع السومو الياباني بعجوزٍ أفريقيٍّ على وشك الموت من الجوع.
كنتُ واثقاً، ولزمنٍ طويل، أنها تعيش في نعيم جنّات البقر.
تغيّرتْ رؤيتي هذه قليلاً ذات يومٍ خريفيٍّ في بداية التسعينات من القرن الماضي. إذ أقضي غالباً معظم شهر سبتمبر/أيلول، كلّ عام، في زيارة طلابي الذين ينهون دوراتهم الهندسية الصيفية النهائية في المرافق الإنتاجية في كلّ أنحاء فرنسا وخارجها، بغية تقييم أعمالهم.
أحدهم كان يعمل دورته الهندسية في تعاونيةٍ في امبراطورية البقر والجبن الفرنسي في أقصى منطقة النورماندي لتطوير قاعدة بيانات التعاونية ورفدها ببرامج ذكيّة.
دهشتُ، وأنا أفحص عمله، عندما رأيت قاعدةَ بيانات بقر وثيران التعاونية غزيرةً بشكل لم يخطر ببالي: كلّ مواصفات أبقار التعاونية وتطوّراتها البيولوجية، منذ يوم ميلادها المسجّل في القاعدة، تتأرشفُ بشكل دقيق يوماً بعد يوم. لكلّ بقرة رقم، وفي رقبةِ كلّ بقرة وثور عقدٌ يحوي لاقطاتٍ إلكترونيةً صغيرةً تمدّ قاعدة البيانات آلياً بكلّ المعلومات اليومية: تقلبات الحركة الدموية للبقرة، موعد نومها، يقظتها، اجترارها، حاجاتها الغدائية. كلّ ما اخترعته ساعةُ شركة آبل، التي ظهرت قبيل أسابيع، من برامج مراقبة إلكترونية للحالة الصحية للإنسان، تعرفهُ البقر منذ عقود. غير أن كلّ هذا الترف في المتابعة لصحّة البقر ليس من أجل نعيمها وسعادتها، لكن من أجل الوصول إلى أقصى قيمتها كسلعةٍ تجارية في بورصة المجازر. إذ تحسب الرسومات البيانية للبرامج الكمبيوترية يوميّاً، قيمة البقرة والثور في ضوء مجموع مؤشرات حالتهم الصحية، وتضع دورياً صور وأرقام الـ "Top 10" للثيران والبقر الأفضل بيولوجياً في التعاونية أولاً، ثمّ على مستوى شبكة تعاونيات المنطقة، وصولاً إلى المستوى الوطني. والهدف: تحديد الثيران الأفضل لجماع البقر الأنسب بيولوجياً، من أجل أجيال من البقر أثرى وأفضل. شعرت حينها بمرارةٍ ما، وأنا أرى البقر مجرد بروليتاريا مسحوقة في بورصة الذبح الجمعي.

اقرأ أيضاً: حياتنا كما يراها فلكيٌّ من كوكب كوبرافيا

ما أبعد كلّ ذلك عن بقر نيتشه الذي قال: "قرب قطيع بقر، تصبح أفكاري أنعم وأكثر إنسانية". لعله لذلك نظّم في "هكذا تكلّم زرادشت"، لقاء "نبيّه" بقطيع بقر: "إذا كنا لا نتحدّث مع البقر، فلا يمكننا دخول ملكوت السماوات. ثمّة شيء يلزمنا أن نتعلّمهُ منها: الاجترار".
ما أبعده أيضاً عن "بقرة الرازحي" (بقرة جدة الشاعر اليمني عبد الكريم الرازحي) التي تحوّلت إلى مشروعٍ أدبيٍّ فكريٍّ وإنساني، متعدّد الأبعاد؛ هي حيناً عشق الرازحي الأوّل: القرية؛ هي "نجمة" البقرة الإرهابية التي تعرف جدّة الشاعر اليمني وحدها كيف تروضها بالحبّ والموسيقى؛ هي مربط فرس صراع الأئمّة والأنظمة اليمنية الفاسدة: البقرة التي يتقاتلون عليها؛ هي البقرة الهندية التي أطرى الرازحي على حُرِّيَتها وسعادتها؛ وهي الرمز الهامّ العميق في كتابهِ "موت البقرة البيضاء": انقسم تاريخ اليمن إلى ما قبل موتها، وما بعده.
ما أبعده بالتأكيد عن "الفلسفة الحيوانية" التي دعى إليها جاك دريدا، في مواجهة الجزر الجماعي لبروليتاريا البقر، وتصنيع لحومها. وما أبعده خصوصاً عن مفهوم البقرة في الديانة الهندية: هي رمز الخصوبة والثراء، "البقرة الأم" التي تمنع المعتقدات والتقاليد ذبحَها. بالنسبة للهندوس. البقرة الأولى: آدم البقر التي ظهرت مع بدء الزمن، حسب الماهابهاراتا، التي تحتضن جميع الآلهة. للبقرة إلهٌ يحميها: كريشنا، "سيّد المزمار والبقر"، ولها نهاية حياةٍ استثنائية: "جولاكا"، جنّة البقر.
الهند، للعينِ المجرّدة، إمبراطورية البقرة: يراها السائح منذهلاً هناك وهي تتمخطر في كلّ مكان، تهبط سلّم محطات القطارات باتجاه المكاتب، تضطجع في وسط طريق السيارات السريعة من دون أن يمنعها أو يكدِّر مزاجها أحد.
صحيحٌ أن البقر منذ فجر التاريخ البشري لم تحظ دوماً بهذه البحبوحة الهندية: هي مزيج من إله وأضحية: شواها الإغريق وقدّمها أضحيات للإلهة أثينا. وفعل الرومان الشيء نفسه لآلهتهم، ففي كلّ خامس عشر من إبريل / نيسان، يحتفل بيوم الخصوبة.
بالمقابل، لِكثيرٍ من آلهةِ المصريين القدامى ملامح بقر، أهمهم هاثور: الزوجة ـ الأم ـ العاشقة. ولأمهات الثيران المقدّسة المصريّة قبورٌ بجانب أبنائها. ومن "البقرات السبع" في "كتاب الموتى" انبثقت استعارة السبع بقراتٍ عجاف، والسبع السمان، التوراتية. كأضحيةٍ أيضاً طلب إله بني إسرائيل، عبر موسى، من "شعبه المختار" أن يضحيَ له ببقرةٍ "صفراء فاقعٌ لونها تسرُّ الناظرين"، كما تقول سورة البقرة، أكبر سور القرآن الكريم.
غير أن "حضارتنا الجديدة" خانت كثيراً هذا التناغم الأزلي في التعامل مع البقر، وهي تبحث عن أفضل المردودات الاقتصادية بأبخس الأثمان، متكئةً على التكنولوجيا الحديثة؛ تحلب بقرَ اليوم روبوتاتٌ تحلّ محل الإنسان، الذي يفضُّل ربّ العمل رؤيتَهُ منبوذاً في سوق البطالة.
فبسبب "طحين الحيوانات" التي صنعتهُ حضارتنا المارقة غذاءً للبقر، من أجزاء لا تؤكل من الحيوانات ومن الجثث أيضاً، برز مرضٌ مُعدٍ للإنسان، قاتل لا علاج له، سُمِّيَ: "جنون البقر"، فيما هو جنون الإنسان في الحقيقة. وارتجف العالم، لا سيّما في عام 1996، جراء انتشار هذا الوباء. ولاقتلاعهِ، تمّ قتلُ بضعة ملايين من البقر ضمن برنامجٍ دوليٍّ للإبادةِ الجمعية.
يدعوني كلّ هذا لرثاءٍ حميمٍ للبقر. ثم هناك ما يجبرني على مواصلة حاجتي العميقة هذه: ثمّة رؤيات خاصة في الثقافات الإنسانية تهين البقر، لا أجد لها تفسيراً. ففي الثقافة الفرنسية اشتقاقٌ: Vacherie، من اسم البقرة: Vache، يعني: قساوة، وشرّاً غير متوقّع. وفي الثقافة العربية تُطلق كلمة "بقرة" على الغبيّ الأهبل. قال أبو تمام: "‫لا يدهمنّكَ منْ دهمائهمْ عددٌ‬‬‬/ فإِنَّ جُلَّهُمُ بَل كُلّهُمْ بَقرُ" أو"عليّ نحتُ القوافي من معادنها/وما عليّ إذا لا يفهم البقرُ".
المساهمون