الثقافة الفلسطينية اليوم، مآل أم مرحلة؟

16 يونيو 2015
لوحة للفنان الفلسطيني محمد جحا
+ الخط -
لم يكن اتفاق أوسلو عام 1993 اتفاقًا سياسيًا وقّعته منظمة التحرير الفلسطينية حيث تنازلت عن 78% من أرض فلسطين التاريخية، مقابل تأسيس سلطة فلسطينية على جزء ممّا تبقى من الأرض، بل كان نقطة التحوّل العميقة التي طغت على كلّ مناحي الحياة الفلسطينية وصبغتها بلون مختلف، لا سيما الحياة الثقافية التي حازت نصيبًا كبيرًا من هذا التحوّل العميق.
يرصد المثقفون الفلسطينيون التحولات التي ألمّت بالمشهد الثقافي الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو، ملاحظين تغيّرًا في مضمون الأعمال الإبداعية، يبدو في بعض جوانبه منسجمًا مع الخطاب السياسي السائد حول مفردات راجت بعد أوسلو مثل "السلام" و"التعايش" وغيرها. بينما بدت المواضيع التي قاربها بعض آخر من المثقفين الفلسطينيين أدنى إلى الانعزال، وظهرت نتاجاتهم الفنّية والثقافية إمّا مكررة أو منسلخة عن محيطها، في محاولة للإبقاء على مواضيع مثل المقاومة والتحرّر، لكن من دون أي إضافات تُذكر أو انتباه متسق مع المستجدّ سياسيًا.
اختلفت النتاجات الإبداعية الفلسطينية وتعدّدت، ما بين خطاب ثقافي جوهره المقاومة والتحرّر من الاحتلال الإسرائيلي والهمّ الجمعي، وما بين خطاب ذاتي يركز على الفرد وجمالية المنتج الثقافي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، رويدًا رويدًا بدأت تظهر مقاربات لا تقلّ صعوبة، خلقتها مرحلة السلام الهشّ، ما بين المثقف العائد، أي الذي عاد مع السلطة الفلسطينية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، بين عامي 1994 و1995، وبين المثقّف المقيم.
أمّا على صعيد المؤسّسات "المستحدثة" والدعم المالي، فقد "نبتت" في العشرين عامًا الماضية، كثير من المؤسسات الثقافية، استمرّ بعضها واندثر بعضها الآخر، نتيجة لعدم القدرة على الحصول على تمويل أجنبي. وعلى الضفّة الأخرى، غيّرت بعض المؤسسات من أجندتها لتنسجم مع أجندة المموّل، ضمانًا للاستمرارية.

اقرأ أيضاً: الثقافة العربية؛ عودٌ على بدء فلسطيني

فقد شهدت مرحلة ما بعد أوسلو تدفقًا غيرمسبوق لأموال المانحين للمؤسسات الحكومية وغير الحكومية على حدّ سواء، في دعم أجندات ثقافية انسلخ معظمها عن الأولويات الفلسطينية في المقاومة والتحرّر، مركّزة على الفردية أو المفاهيم المعاصرة للفنّ التي اهتمّت بـ "الجماليات" أكثر من المضمون.
تشعّبت تفاعلات أوسلو وتشابكت، وأصابت ارتداداتها النسيج الفلسطيني بشكل عميق، لا سيما في الحقل الثقافي الذي فقد دوره تقريبًا. وإن كان المثقف الفلسطيني قد تبوأ مركزًا متقدّمًا في منظمة التحرير الفلسطينية، فقد تمّ تهميشه اليوم هو والمنظمة معًا، تحت سطوة السلطة الفلسطينية التي احتفظت لنفسها بكلّ أدوات القوة. وليس سرًا أن الثقافة ليست أولوية لديها، ويكفي النظر إلى المبلغ المخصص للثقافة من الموازنة العامّة، الذي لا يزيد عن الواحد بالألف في أحسن التقديرات، بينما يتمتع الأمن بموازنة تقارب ثلث موازنة السلطة، وتصل إلى نحو 38%.

ثقافة ما بعد أوسلو ازدهار أم مأزق؟

التقى "ملحق الثقافة" طائفة متنوعة من المثقفين الفلسطينيين، ومن بينهم الشاعر الغزاوي خالد جمعة المقيم في رام الله، الذي أجاب عن سؤالنا عن أثر اتفاق أوسلو على الحياة الثقافية في فلسطين قائلًا: "أنتجت تفاعلات أوسلو ثلاثة معسكرات؛ معسكراً مؤيّداً لأوسلو، وثانياً رافضاً لها، وثالثاً متأرجحاً بين الحالتين. وأضحى الدعم المالي، الذي عادة ما يهدف إلى إسكات المبدعين، مطمعاً لكلّ الفصائل بعد أن كان مرفوضاً في السابق. وقد طال هذا الأمر عالم الفنّ والأدب في حدود معينة، وذلك من خلال الدعم المادي الذي قدّمته الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، للمطبوعات والموسيقى والمسرح والسينما، وقد أدّى ذلك إلى حدوث طفرة في الفنّ لم تكن متناسبة مع التطور الطبيعي الذي كان من المفترض أن يحدث".
أكثر ما يؤلم جمعة، ظنّه أن جهود الفلسطينيين بعد أوسلو، لم تعد تنصبّ في النضال الوطني: "يوجد اليوم فقدان للتفوق الأخلاقي الذي لطالما ميّزنا عن العدو الصهيوني. يدافع الإسرائيليون عن أرض ليست لهم، بكل ما أوتوا من قوّة ودهاء وأموال وإعلام، أمّا نحن فنخسر ما هو لنا، بسبب اتجاهنا نحو ما لا يخدم نضالنا الوطني. لقد فقدت الثقافة الوطنية الفلسطينية حضورها، إمّا عن قصد أو عن غير قصد. فلو جربنا أن نسأل عددا من الأشخاص عن أبواب القدس، أو الفرق بين أبواب الحرم وأبواب المدينة مثلًا، لفاجأتنا النتيجة".
مآل الأدب الفلسطيني؟

اقرأ أيضاً: استعادة بازوليني، الإيطالي المستفز

لعلّ الأدب، بكلّ أشكاله، هو الأقرب إلى قاعدة كبيرة من الناس، وقد كان من القضايا الشائكة بعد أوسلو، بين رأي يقول إن المثقفين بعد أوسلو استهلكوا أنفسهم بكتابة نصوص وكتب حول العودة "الجزئية"، فلم يعودوا يتمتعون بأي إبهار، بل طبع التكرار أعمالهم، وبين رأي آخر مناقض تمامًا يقول إن الأدب بعد أوسلو شهد حالة من الازدهار. ومن بين القائلين بهذا الرأي، الناقد والكاتب إبراهيم أبو هشهش: "ازدهر الأدب الفلسطيني بعد أوسلو ازدهارًا واضحًا جدًا، فقد ظهرت أسماء جديدة كرّست نفسها في الساحة الأدبية الفلسطينية. خرج الفلسطيني من التنميط إلى أبعاد أكثر تفصيلًا وعمقًا في الحياة اليومية والاجتماعية، وفي العلاقة مع الناس والآخر. بينما قبل أوسلو، كان تنميط الأدب الفلسطيني واضحًا، ويكاد موضوعه ينحصر في الصدام المباشر مع الاحتلال". إذ يرى أبو هشهش أن الحياة أصبحت في ظلّ الظروف المتغيرة الجديدة والغرائبية إلى حدّ ما، هي الموضوع الرئيس في الأدب الفلسطيني. إضافة إلى ذلك، صار الانفتاح على العالم الخارجي بعد أوسلو، أكبر خصوصًا من خلال عودة الكثير من المثقفين الفلسطينيين من المنافي المتعدّدة، ومساهماتهم في المشهد الثقافي الجديد. ونتيجة لاجتماع هذه العوامل، فقد شهد النتاج الإبداعي قفزة نوعية في الشكل والمضمون والمجالات والموضوعات، وهو ما يظهر جليًا حال قارناها بالنتاج الإبداعي قبل أوسلو.
وقد حظي نقاش مضمون المنتج الثقافي وما زال، بالأولوية في أي جلسات ثقافية فلسطينية متخصصة. ولم يحسم هذا النقاش يومًا، أو على الأقل لم توجد وجهة نظر تغلب الأخرى، فكلّ مثقف أو ناقد يرى الأمور من وجهة نظره، ويحشد البراهين بما يكفي لإثبات صحّتها، والعكس صحيح. يقول أبو هشهش في هذا الصدد: "لم يعد المضمون هو الصدام المباشر مع الاحتلال، بل صار المضمون هو الحياة المعاشة والتأمّل فيها في ظلّ ظروفنا الاستثنائية؛ فلدينا شبه دولة واحتلال مقنّع. الأمر الذي كان له الأثر المباشر في إبراز ذاتية الأديب وخصوصية الحياة في فلسطين".
وإذ بدت إجابة الناقد أدنى إلى تبرير التخفّف من الخطاب ذي المضامين التحررية، توجه إليه "ملحق الثقافة" بسؤال مباشر؛ هل بات الأدب الفلسطيني بعيدًا من السؤال المركزي، أي تحرير فلسطين؟. فقال : "لا، لأن السؤال أصبح ذائبًا ومندمجًا مع أسئلة أخرى في الحالة الفلسطينية. فالموضوع، أي موضوع، ومهما كان مقدّسًا، فإنه لا يجعل الأدب أدبًا. ما يجعل الأدب أدبًا هو الفنّ. الموضوع بحدّ ذاته، بما هو موضوع إنساني متعلّق بالحياة في فلسطين، هو موضوع مهم، لكن شرط أن يُعالج أدبيًا بشكل رفيع وبمستوى راقٍ وبرؤية مبتكرة ولغة طازجة. لا يعدّ الموضوع بحدّ ذاته مسوغًا للأدب، وهو ليس رافعة له. رافعة الأدب هي الفنّ فقط، ومعيار الأدب هو الجمال، وأي أدب رفيع ينحاز للإنسان والجمال. ومهما كانت فلسطين مقدّسة، فإن الأدب عنها لا يسوّغ إلا إن كان رفيعًا بحدّ ذاته". ويرى أبو هشهش أن الأدب في مرحلة ما بعد أوسلو، "لن يلغي ما قبله، فالجيد يبقى في كل العصور".
وخلافًا لوجهة نظر الناقد أبو هشهش، يجد الشاعر والكاتب ومدير الآداب والنشر والمكتبات في وزارة الثقافة الفلسطينية، عبد السلام العطاري، تراجعًا في الخطاب الثقافي ضدّ الاحتلال الإسرائيلي والخلاص منه. ويقول: "كان النتاج الإبداعي قبل أوسلو في القصّة القصيرة واللوحة والرواية، يركّز على التحرّر والخلاص من الاحتلال. نفتقد اليوم هذه المضامين، مع أننا ما زلنا تحت الاحتلال، ونحتاج إلى خطاب مناهض ومقاوم له، ومحرّض على البقاء. لقد تراجع الخطاب الثقافي بذهابه نحو تفسير خاطئ لمفهوم الجماليات. وللأسف فإن المشهد الثقافي قبل عام 1994 كان أكثر نشاطًا وجدالًا واهتمامًا منه الآن".
تندرج وجهتا النظر السابقتان في قطبين متعاكسين، من دون الغوص فعلًا في ماهية التغيير الذي أحدثه اتفاق أوسلو في المشهد الثقافي الفلسطيني، لذا كان التوجه إلى الأكاديمية عادلة العايدي -هنية، والمديرة السابقة لمركز السكاكيني الثقافي في رام الله، فأجابت قائلة: "ما زالت القضية الفلسطينية تمثّل أولوية. أمّا التغيير في ظني، فقد طال الأسلوب، والنقطة التي ينطلق الكاتب منها، وكذلك مقاربته للموضوع، وطريقة عرضه. إن أغلب النتاج الثقافي الفلسطيني يدور حول الهمّ الجمعي الفلسطيني، حول مساءلته ونقده، وكيفية نظرته إلى الآخر، وذاك التوق للانعتاق منه. فعلى سبيل المثال، يختلف فيلم "عمر" للمخرج هاني أبو أسعد عن الأفلام الفلسطينية في زمن الثورة الفلسطينية، من ناحية زاوية الرؤية، وكيفية التعاطي مع الهمّ الفلسطيني والتركيز عليه، الرسالة هي نفسها بيد أن الأسلوب اختلف".
بينما يربط الناقد الفلسطيني عادل الأسطة، المشهد الثقافي بالمتغيرات السياسية، ملاحظًا أن فترة "الاسترخاء" بعد أوسلو، لم تستمر طويلًا، إذ إن اندلاع الانتفاضة الثانية أدّى إلى عودة الكتّاب إلى أدب المقاومة. ويقول عن هذا الأمر: "عاد الكتّاب إلى أدب المقاومة بعد أن خاضوا في موضوعات أخرى، أرادوا عبرها التحرر من الموضوع الفلسطيني المباشر. أذكر في هذا الصدد قصّة "سحر الحبّ" لأكرم هنية، وكذلك ديوان "حالة حصار" لمحمود درويش هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد أثّرت الانتفاضة الثانية على المشهد الأدبي سلبًا، حيث تراجعت الصحافة، وأغلقت مجلات مهمّة مثل الكرمل والشعراء".

المثقف العائد والمثقف المقيم

بعد توقيع اتفاق أوسلو، شهدت فلسطين في جزء منها (الضفة الغربية وقطاع غزة) عودة العشرات من الكتّاب والمثقّفين الفلسطينيين المنضوين تحت منظمة التحرير الفلسطينية وغيرهم. وقد أثّر هؤلاء بشكل لا عودة عنه في المشهد الثقافي الفلسطيني، ولمقاربة ذلك، يبدو أننا نضطر دومًا لاستعمال مصطلحين "جديدين"؛ المثقف العائد والمثقف المقيم.
يقول الناقد الأسطة في هذا الصدد: "من المؤكّد أن المشهد الثقافي بعد أوسلو تغيّر تغيرًا جذريًا، وقد تمثّل هذا التغير في أشكال عديدة أبرزها عودة الكتاب والشعراء الذين كانوا يقيمون في المنافي مثل محمود درويش وأحمد دحبور ومحمود شقير ومريد البرغوثي ويحيى يخلف وأكرم هنية وغسان زقطان وزكريا محمّد وآخرين كثر. وقد تصدّر هؤلاء المشهد الأدبي وطغى حضورهم على حضور الكتاب المقيمين الذين خفتت تقريبًا أصواتهم. وحين احتجّ هؤلاء ذات مرّة على الجوائز التي تدعمها السلطة، إذ لم ينل أي منهم جائزة، انتقدهم الشاعر محمود درويش قائلًا إن زمن أدب الفصائل انتهى، وإن على الكاتب أن يطوّر أدواته الكتابية، وأن تكون الحرفية هي معيار الأدب والأديب، لا الانتماء الفصيلي".
وبدأت نصوص "العودة الجزئية" بالظهور، ويبرّر الأسطة ذلك قائلًا: "ربّما يعود السبب إلى الحدث نفسه، أعني حدث العودة. وأذكر من هذه الأعمال "ظلّ آخر للمدينة" لمحمود شقير و"رأيت رام الله" لمريد البرغوثي، و"منازل القلب" لفاروق وادي، ولا أنسى كتاب محمود درويش "في حضرة الغياب". هذه كتب متميزة أثرت الأدب الفلسطيني من دون شكّ".
ويذهب الأسطة إلى أن حالة الازدهار التي تحدّث عنها أبو هشهش لم تدم طويلًا، والأهم أن الأدب شهد ارتفاعًا في الكم لا النوع، ويبدو أنه يعدّ الأعمال التي تناولت العودة الجزئية إلى فلسطين، باعتبارها تيارًا أملت وجوده الظروف الواقعية للعودة، وأن الأمر اختلف اليوم: "الآن هناك حالة شبه استرخاء تقريبًا. فقد بهت نشاط الأدباء العائدين، وما عاد أكثرهم يلفت النظر أو يحدث إنتاجه الأدبي أي صدى، ويبدو أن رحيل محمود درويش ترك أثرًا، فقد كان الصوت الأكثر تأثيرًا من أصوات العائدين، في الشعر وأيضًا في النثر. توجد اليوم كتابات كثيرة، ولم يعد سؤال الكاتب العائد والكاتب المقيم مثارًا، فالأهم ماذا يقدّم الكاتب. ويخيل إلي أن هناك نوعًا من الإقامة في الظلّ لدى أكثر الكتّاب. لم يعد بينهم من يثير الدهشة، فهم يكتبون كما لو أنهم لا يكتبون. النصوص التي تثير الدهشة نادرة وقليلة، وقد ظهر في السنوات السبع الأخيرة بعد غياب درويش، كتّاب جدد من المقيمين مثل عبّاد يحيى في "رام الله الشقراء" وعارف الحسيني في "كافر سبت". والكتّاب الإشكاليون قليلون جدًا، بل إن النصوص الإشكالية قليلة. ومع ذلك يمكن القول ثانية إن الأدباء العائدين تصدّروا المشهد، فقد توقّف كتّاب كثيرون ممن كانوا يكتبون قبل عودة العائدين، وبهت نشاطهم الأدبي وتراجع".
ويبدو أن الأمر لم يكن من دون ذيول أدنى إلى النميمة، فقد كانت تهمة الشللية دائمًا التهمة الجاهزة لهؤلاء المثقفين العائدين، بحيث أصبح هناك تصنيف مفهوم ومتفق عليه؛ كاتب "عائد" وآخر "مقيم". ولكل من الجهتين شلل وأماكن ثقافية يرتادونها، إلى أن خفت الأمر بعد ذلك قليلًا، ربّما بسبب التغيير الذي أنجزه العائدون، والمتعلّق بالمنابر الثقافية، يقول الأسطة: "لقد أحدثوا تغييرًا لافتًا في المشهد الأدبي، حيث توقّفت مجلات كانت تصدر، وكانت فقيرة في شكلها وموضوعاتها، مثل "البيادر" و"الكاتب"، وصدرت مجلات جديدة غنية في مادتها ومنفتحة على الثقافة العربية والعالمية، وأنيقة مثل مجلة "الكرمل" التي أعيد إصدارها ورأس تحريرها محمود درويش. طبعًا لا ننسى أن بعض المقيمين من ذوي الحظوة أصدروا مجلات أرادوا من خلالها منافسة الكرمل، فقد أصدر المتوكل طه الذي أسّس بيت الشعر الفلسطيني، مجلة "الشعراء"، وهي مجلة كانت متميزة ولا شكّ. كما أصدر عزت الغزاوي مجلة "الكلمة"، والأخيرة كانت من حيث موضوعاتها واهتماماتها مشابهة لمجلات ما قبل أوسلو، ولكنها مثل "الشعراء" كانت أنيقة.
وحسب الأسطة فإن الجانب المادي لأوسلو، انعكس إيجابًا إذ إن إصدار مجلات ذات طباعة فاخرة أدّى على ما يبدو إلى دفع مكافآت للكتّاب وهذا أمرٌ جديدٌ. ويقول عن ذلك ساخرًا: "خيرات أوسلو انعكست أيضًا على دفع مكافآت للكتّاب لأوّل مرّة. هذا ما لم يكن أصلًا موجودًا قبل أوسلو. فقد كان الكتّاب يكتبون وهم مقتنعون بالقضية، أكثر مما كانوا يكتبون وهم يفكّرون في مكافأة ما".
لكن عبد السلام العطاري كان له رأي آخر، إذ يرى أن المرحلة الذهبية للمطبوعات من صحف ومجلات كانت قبل أوسلو، ويقول بالأرقام: "كان يُطبع في الأرض المحتلة أكثر من أربعين مطبوعة ما بين مجلة وجريدة ودوريات، مثل "البيادر" و"العودة" و"الكاتب"، و"الجيل الجديد"، أمّا اليوم فهناك قلة في المطبوعات وغياب لهذه الدوريات".

الانكفاء وغياب البوصلة

يرى العديد من المثقفين أن الحياة الثقافية الفلسطنية تعيش انتكاسًا وحالة من الانحطاط العام المرتبطة بانحطاط الوضع السياسي والعامّ في فلسطين المحتلة. ولعل التشخيص الذي تُجمع عليه أكثر من جهة، هو عدم وجود إستراتيجية ثقافية وطنية، وينطبق الأمر ذاته على السياسة الفلسطينية، حيث لا استراتيجية ولا بوصلة ولا مشروع وطني، وهو ما يجعل كلّ شيء عرضةً للتشققات والتراخي.
يقول خالد جمعة: "بدأت التشقّقات بين الخطاب الرسمي والخطاب الشعبي تأخذ لوناً أكثر وضوحاً، حين تسمع أغنية تنادي بعودة حيفا ويافا، بينما الخطاب الرسمي يقول إننا نريد دولة على حدود 1967. هذا التناقض وصل إلى السياسي نفسه في بعض الأحيان، ممّا خلق حالة من الارتباك، دعمها بشكل كبير وجود نهج لا يتناسب مطلقاً مع ما يحدث على الأرض، فغابت فلسطين عن المشهد. وبعد أن كان كلّ تنظيم يتباهى بما قدّمه لفلسطين وللشارع الفلسطيني، أصبح هناك إنكار إيديولوجي للقضية الفلسطينية، وصار الحزب والتنظيم والفصيل أهمّ من فلسطين".
ووصلت الحالة الثقافية إلى مرحلة منحدرة، في ظلً غياب النموذج والتعبئة الوطنية الصحيحة وتفشّي حالة الإذعان السياسي، ولا يبدو أن لدى جمعة أوهامًا عن ذلك، إذ يقول: "الحالة الثقافية وصلت إلى حدّ من التردّي لا مثيل له، خصوصًا بين جيل الشباب، فرغم أن نسبة التعليم في المجتمع الفلسطيني هي الأعلى عربياً، إلا أن المستوى الثقافي "حدّث ولا حرج". فعلى سبيل المثال، تجيب مجموعة من الشباب عن سؤال امرأة كانت تشعل شموعاً من أجل ذكرى أقربائها الذين قتلوا في مجزرة تل الزعتر، عمّا إن كانوا يعرفون تل الزعتر، فكان جوابهم صاعقًا: "نعم، إنه في جباليا. بينما تل الزعتر الموجود في جباليا هو منطقة سمّيت بـ تل الزعتر بعد المذبحة لتشابه جغرافيتها مع جغرافية مخيم تل الزعتر حيث حصلت المذبحة الشهيرة. وثمة أمثلة أخرى، فقد وجه سؤال في أحد برامج المسابقات في التلفزيون الرسمي لشاب متسابق، بأن يذكر ثلاث مدن في قطاع غزّة فلم يستطع. واتهم شاعر مسؤول صفحة ثقافية في إحدى الصحف بأنه يمارس المحسوبية وينشر لصديقه الشاعر "راشد حسين" الذي مات حرقًا في نيويورك منذ ما يقارب الأربعين عاماً. هذه أمثلة بسيطة عن الإجابات التي يمكن أن نتلقاها من الجيل الناشئ في فلسطين، الجيل الذي نعوّل عليه ليقوم بما لم تقم به الأجيال السابقة".
هذا الانقطاع الخطير في النضال الوطني، الذي يظهر من خلال هذه الفجوة المعرفية والثقافية، لم يكن في رأي عبد السلام العطاري إلا نتيجةً لغياب دور منظمة التحرير الفلسطينية، ويقول عن الأمر: "لم تكن فلسفة منظمة التحرير الفلسطينية تقتصر فقط على الكفاح المسلح، بل كان هناك الكفاح الثقافي. وكانت المنظمة تعطيه أولوية. وثمة شواهد كثيرة على هذا من خلال دور اتحاد الكتاب الفلسطينيين في السبعينيات والثمانينيات، أما الآن فقد فقدت منظمة التحرير دورها الثقافي، وتقريبًا فقدت كل شيء".

تجربة فرقة الفنون الشعبية .. تكرار ثمّ تجريب فإبداع

بيد أن الحياة الثقافية الفلسطينية كانت موجودة كما لا يخفى قبل أوسلو، من هنا كان لا بدّ من ذكر تجربة فرقة الفنون الشعبية التي تأسّست عام 1979. وكان أول أعمالها لوحة راقصة مغناة بعنوان "مرج ابن عامر". كان كاتب العمل وسيم الكردي سجينًا في معتقل جنيد وذلك عام 1987، فهرّب القصائد إلى سهيل خوري الذي كان سجينًا بدوره في معتقل سجن مجدو. انتقلت الكلمات بعد ذلك إلى مصمم الرقص الذي كان سجينًا في معتقل أنصار 3 في النقب. هكذا تضافرت جهود السجناء الثلاثة، وتمّ الانتهاء من إنتاج اللوحات المغناة الراقصة عام 1989.
يقول وسيم الكردي: "بعد أن خفتت الانتفاضة الأولى في مطلع التسعينيات، بدت الكثير من الفرق الفنية وكأنها في مأزق لا تعرف أين تذهب. لكن فرقة الفنون الشعبية بقيت مستمرة بعد أوسلو، وأخذت أعمالها طابعًا فيه تكرار بشكل ما، مثل أعمال "زغاريد" و"طلة ورا طلة". لم تطرح الفرقة الأسئلة التي بدت متعلّقة مباشرة بالمرحلة السياسية وبما يعيشه الفلسطينيون في مرحلة ما بعد أوسلو، بل كانت تعيد طرح الأسئلة المتعلّقة بالهوية الوطنية، عبر إعادة صوغ التراث والفولكلور أحيانًا، وإنتاج أعمال ذات صبغة معاصرة في أحيان أخرى".
وقد أدّى الاستمرار دوره في التراكم وفي "توليد" جيل ثان للفرقة إن جاز التعبير، إذ يقول الكردي في هذا: "براعم الفنون هم الجيل الثاني في الفرقة. وقد أعادوا تقديم لوحات الجيل الأوّل لكن بحلّة جديدة. مع ذلك، حين عملوا على "طلة ورا طلة"، شعرت بأنهم وقعوا أيضًا في مأزق، فكتبت عن ذلك".
وبالطبع مثلما أثّر اتفاق أوسلو في المشهد الثقافي الفلسطيني، فقد حمل رياحه أيضًا صوب الفرقة. ويشير الكردي إلى ذلك قائلًا: "الجديد الذي حملته مرحلة أوسلو هو تعرّض الجيل الجديد غير المتصل بمرحلة الانتفاضة الأولى بصورة مباشرة إلی علاقة مبنية علی تواصل الأجيال. كما اتجه أكثر فأكثر صوب تجارب عالمية لم يتعرّض لتأثيرها الجيل الذي سبقه. فقد سمح الواقع السياسي الجديد بالتواصل والانفتاح على تجارب الآخرين. فقد حضر عديد من الفنّانين العالميين إلى الأراضي المحتلة، كما سافر فنانو "البراعم" إلى خارج فلسطين. فأتاح ذلك وجود مستوى جيد من التجريب، وظهور تجارب فنية تتجه نحو الفنّ المعاصر وتختلف عن الاتجاه الرئيس للفرقة".
وقد أسفر الطابع التجريبي لعمل الفرقة عن أعمال فنية عكست الهمّ العامّ والمأزق السياسي الذي وضعت أوسلو الفلسطينيين فيه، حيث قدمت الفرقة عملًا فنيًا بعنوان "رسالة إلى"، وهو عبارة عن لوحات مستوحاة من رسومات فنان الكاريكاتير الفلسطيني الشهيد ناجي العلي. ثم أنتجت الفرقة عام 2014، عملًا فنيًا آخر بعنوان "حزرية" وهو مجموعة أغان ساخرة من تأليف وسيم الكردي، تنتقد المظاهر التي راجت بعد أوسلو مثل، الفساد والرشوة وتردّي الوضع السياسي.
فالخروج صوب العالم والاحتكاك به أحد الميزات التي رافقت أوسلو على الصعيد الثقافي حصريًا، على حدّ قول عادلة العايدي - هنية التي ترى أن: "من الميزات التي رافقت أوسلو على الصعيد الثقافي حصريًا، خروج الفلسطيني من عزلته وانفتاحه على العالم، فقد أصبح بإمكان الفنّان أو الكاتب في المنفى أن يحضر إلى فلسطين، ويقيم فيها مدّة من الوقت ويكتب عنها، أو أن يذهب للخارج ويحتك بالتجارب العربية والعالمية".
واليوم يعكف الكردي على عمل فني ملحمي متكامل بعنون مقترح هو" أشيرة" يتحدّث عن المقاومة الفلسطينية عبر التاريخ، منذ زمن الكنعانيين إلى اليوم، ويربط ذلك بما يحدث على مستوى العولمة، في إسقاطات سياسية وخطوط درامية تعكس استمرار مقاومة الفلسطيني، وأنها لم تتوقّف منذ الزمن الذي كان يهدم فيه بيت الكنعاني أو يعذب بالحشرات. فتلك الممارسات أي الهدم والتعذيب، ما زالت حاضرة في التاريخ المعاصر.

أثر التمويل الأجنبي

من المستحيل التطرّق إلى المشهد الثقافي الفسطيني بعد أوسلو من دون ذكر التمويل الأجنبي. لأن أوسلو والتمويل الأجنبي مصطلحان متلازمان. ويحمل بعض المثقفين التمويل الأجنبي كلّ النتائج السلبية لفقاعات الثقافية تظهر وتختفي بين حين وآخر. بينما يرى بعضهم فيها إملاءً لأجندات "هبطت" بالخطاب السياسي من المقاومة والتحرّر من الاحتلال إلى التعايش وغيره من المفاهيم الرائجة. وبين الصوتين، ثمّة صوت ثالث يقول إنه لولا التمويل الأجنبي، لما كنّا سمعنا بمهرجانات رقص غربية ومسارح تحضر وتغيب في المشهد الفلسطيني من دون فعل أو تفاعل مع أصحاب المشهد غالبًا.
يعلّق عبد السلام العطاري على التمويل الأجنبي قائلًا: "لا يمكن أن يكون للتمويل الأجنبي علاقة بتمويل شأن ثقافي مقاوم. كان ذاك التمويل منصبّ على مشاريع ثقافية تخدم "مفهوم السلام"، و"التعايش". وبعض هذا الدعم كان موجّهًا للمثقف بهدف تدجينه وتغيير خطابه، وأظنّ أن هذا الدعم نجح مع بعض المثقفين إلى حدّ كبير". وكما لا يخفى فإن الدعم والتمويل الأجنبيين اتجها صوب الأفراد والمؤسسات غير الحكومية، الأمر الذي أثر بصورة مباشرة على وزارة الثقافة الفلسطينية، التي بدت عاجزة عن اللحاق بركب "الدعم والتمويل". ينبه عبد السلام العطاري إلى هذه النقطة : "تدعم وزارة الثقافة الجهد الثقافي الجمعي وليس الفردي؛ أي هي تدعم مكتبات عامة ومسارح، وغيرها من المؤسسات التي تشكل جزءًا من بنية تحتية ثقافية، لتمهد الطريق للإبداع الفردي".
وقد توجه ملحق الثقافة صراحة نحو العطاري، وسأله عن الميزانية الضعيفة جدًا التي تخصصها السلطة للثقافة الفلسطينية، فأجاب : "هذا السؤال يجب أن يتوجه إلى صانع القرار، وأن يتمّ سؤاله عمّا هي أولوياته". ولا يغفل العطاري انتقاد الوزارة الثقافة ذاتها، فقد غابت عنها المأسّسة، واتسمت بالبيروقراطية وتشغيل جيش من المثقفين من الكتّاب والفنانين، أدنى إلى البطالة المقنعة.
أمّا الأكاديمية عادلة العايدي -هنية، فتشرح الحاجة للتمويل قائلة: "من خلال عملي في مركز خليل السكاكيني، وسفري للمشاركة في مؤتمرات ومهرجانات، اقتنعت بأننا نحتاج إلى إيجاد تمويل من أجل تعليم جيل جديد من الفنانين والسينمائيين والمبدعين بمهنية وتدريبهم أيضًا. كي نتمكّن من ملء برنامج المركز، وطرح ما هو جديد على الجمهور. لم أرَ أن ذلك مستحيل، إذ كنت ألتقي أثناء سفري مبدعين كثراً من بلدان فقيرة وصغيرة، وتعاني من أوضاع سياسية صعبة، غير أنهم كانوا على قدر كبير من الثقافة والمهنية والإبداع، وهو ما كان ينقصنا في التسعينيات، نتيجة عقود من الاحتلال المباشر والعزلة. و في المنفى كذلك نتيجة لصعوبة تحقيق الفنان ذاته كفلسطيني".
وتتابع:" أمّا الآن فقد بات لدينا موسيقيون وسينمائيون وفنانون يُعتبرون مراجع فنية وقامات في مجالاتهم عربياً و دولياً. لكن غالباً ما يعود هذا الحال إلى الجهود الفردية أو السفر والغربة، أو إلى جهود بعض المؤسسات المحلية القليلة. لا بدّ إذن من وجود مؤسّسات أقوى وأكثر، مؤسسات تتمكّن من دعم أعمال الفنان والمبدع الفلسطيني على مدار السنة للجمهور المحلي الفلسطيني".
وترى العايدي - هنية أن المشكلة مركبة، وأنها انتقلت الآن من وجود عدد من الفنانين المرموقين، إلى عدم قدرة المؤسسات الثقافية الفلسطينية التي تصارع البقاء على استضافتهم واستضافة أعمالهم. لأنها غارقة في أعباء مالية، وتحديدًا في القدس التي تعاني من فرض الاحتلال ضرائب باهظة. وفي النتيجة توجد مفارقة في أن العمل الفني الفلسطيني غالباً ما يمول ويعرض ويوزع في الخارج أكثر من الداخل الفلسطيني، الذي يتناوله العمل الفني أصلاً، وقلّما يشاهده المتلقي المحلي الذي هو في أمس الحاجة إلى التفاعل مع إبداع فكري وفنّي متجدّد.
وتقول إنه بالمقابل لا ينبغي اتخاذ التمويل الأجنبي بالضرورة كمرادف لغياب الالتزام الأخلاقي بالقضية الفلسطينية: "فرغم هشاشة المرحلة والنوايا التي تقف وراء التمويل الأجنبي، فإن بالإمكان إيجاد طريقة ذكية للحصول على تمويل لمشروع ثقافي من دون تنازل".
تقدم العايدي - هنية، تجربتها كمثالاً عن ذلك في أكبر المعارض وأهم الإنتاجات الثقافية التي قامت بها في مركز خليل السكاكيني؛ معرض "100 شهيد، 100حياة" الذي عرض عالمياً بين عامي 2001 و 2003، وكذلك مشروع توثيق النكبة (1998-1997)، التي حصلت على دعم غربي لتنفيذهما. ولقي المشروعان صدى واسعًا في حينه، من دون أي تنازلات في المضمون. ترى العايدي - هنية: "أما المؤسسات الثقافية في فلسطين المحتلة عام 1948، فلديها مشاكل أخرى كبيرة، أهمها البقاء مع الامتناع عن أخذ الدعم من المؤسسة الإسرائيلية، لذلك يجب أن يكون هناك مؤسسات وجهات عربية وفلسطينية تدعمها".
المساهمون