حتفٌ رقيق

09 نوفمبر 2015
لوحة للفنان الصيني، شن ليان كسين (Getty)
+ الخط -
كان دقّ الزعتر ما زال ساريًا في القرى الجنوبية حينذاك. في صيف تموز القائظ كنا نجلس تحت شجرة الأكيدينيا حول شرشف مليء بالزعتر والسمّاق اليابسين. بالمطرقة الخشبية المقدودة من جذع شجرة والقوية والمتينة نهوي على الزعتر أمامنا لنفرمه مع السمّاق. ألفّنا سمفونيات إيقاعية من أصوات تهاوي الضربات المتتالية والمتتابعة. 

بينما كنت أمرّر يدي لأحرك الخليط أمامي، هوت مطرقة أمي على إصبع يدي الأوسط فمعسته. عصر الألم دماغي حتى استنكفت عن الصراخ. حتى الآن لا أعرف إذا ما كانت الضربة قد آلمتني بهذه الشدة، أم إنها ضربة أمي بالتحديد، التي أردت أن أستنزف كل عطفها نحو ألمي الذي سببّته، بعدما ذوت وخفتت تلك العاطفة، لأنها تكبر ولأنني في وسط سن المراهقة الغريب.

اقرأ أيضًا: لا بدّ من زيارة الطبيعة

قرر مسعف القرية أن وضع يدي في مياه باردة مثلجة ثم في مياه ساخنة، هو الحل الأوحد لإعادة إصبع ممعوس إلى الحياة. كانت وسيلة تعذيب حقيقية.

ثانيتين في مياه باردة ثم ثانيتين في مياه ساخنة. باردة ثم ساخنة. بيروت ثم الرياض. باردة ثم الرياض. ساخنة ثم بيروت. الرياض ثم بيروت.

بعد كل هذا الزمن، إصبعي الأوسط ما زال مفلطحًا بتكويرة مشوهة، رغم أنه عنيد ولامع ومرتفع دومًا.


                              *****************

أراد أبي أن يستعيد يفاعته في صيد العصافير بالأفخاخ. وجدنا دودة في عود يابس. كانت ستموت بعد حياة قصيرة في كل الأحوال. كان يومًا حارًا من أيام تموز، والشمس ساطعة ومتدفقة، والألوان باهتة كأن الشمس امتصتها، وكان كل نبات وورق شجر متيبس في هذا الصيف الذي قضى على أمال الربيع الذي سبقه. كنت في السادسة من عمري.

غطى أبي الفخ بالتراب. تلوّت الدودة فوق التراب، لكن لا فكاك، البتة. حام عصفور البيبانة الصغير حومة كاملة فوق الفخ، ثم وقف على جذع قريب. فجأة انطلق كالسهم نحو الدودة. وكالسهم ابتلعه الفخ.

أنا وأبي ركضنا نحو الفخ. فتحه متمهلًا، حمل العصفور في يده بحنان، نظر إليه بمودة ثم مدّه نحوي لأراه عن قرب. عيناه ضعيفتان، جسمه يرتعش، وريشه ناعم. طلبت أن أحمله. أصررت على حمله، فناولني إياه من رجليه.

اقرأ أيضًا: الشعر السعودي محل للشجاعة والفتنة

التقطه. بات جناحاه حرّين. حاول الرفرفة بهما بكل قوته، بينما أشدّ بأصابعي على قدميه لئلا يفلت فيزعل أبي مني.

طقّت رجله بين أصابعي. سمعت صوتها وأحسست بها كلسعة كهربائية امتدت إلى كل جهازي العصبي كتنميل خفيف.

هذا العصفور سيتعب من الطيران بعد قليل. لن يتمكن من الوقوف للاستراحة. أنّبني والدي غاضبًا على فعلتي. لقد صنعت حتف العصفور الرقيق أنا الطفل الحنون الضعيف المتوحّد، وأمام ناظري أبي الكبير والضخم والمرتفع، الذي يكاد ثقل عطفه يحنيه. أو لربما تخيلته حينها رجلًا ضخمًا من الشمع يذوب ويتلوى تحت شمس عاطفته.
المساهمون