سمير جريس: الترجمة، كأيّ علم، تتطوّر بالتراكم

23 نوفمبر 2015
المترجم المصري سمير جريس
+ الخط -
تمثّل الترجمة من لغة وسيطة إلى اللغة العربية، واحدة من المعضلات التي تواجه المترجمين والناشرين العرب على حدّ سواء. ثمة كثيرٌ يقال ويُكرر في هذا الشأن. حججٌ وذرائع لا تسبر واقع ترجمة مماثلة، لجهة تأثيرها في مسار الترجمة إلى اللغة العربية عامّة. وإذ راجت فكرة تقول إن الترجمة عن لغة وسيطة جائزة، إذا كانت اللغة الأصلية من اللغات القليلة الانتشار في عالمنا العربي، فإن شيئًا لا يبرر مثلًا اللجوء إلى لغة وسيطة في حالة معاكسة. ومن جهة أخرى، فقد اعتاد العرب عقد المقارنات بينهم وبين "الآخر"، الغربي خصوصًا. وفي حال الترجمة عن لغة وسيطة، فإن هذا الأمر غير مقبول مطلقًا هناك. 

البلاغة منقذة

ومن أجل الاقتراب أكثر من الموضوع، التقى "ملحق الثقافة" المترجم المصري سمير جريس، وسأله بدايةً عن رأيه في واقع الترجمة عن لغة وسيطة عربيًا، فأجاب: "تقدّم الترجمة عن لغة وسيطة، باختصار، نصاً تقريبياً، يفهم منه القارئ ما قصده مؤلف الأصل، ولكنه لا يقدم صورة دقيقة لكل ما ورد في الأصل. هذا بالطبع تعميم، وهناك استثناءات وظروف قد تدفعنا في العالم العربي إلى الترجمة عبر لغة وسيطة، وأهمها قلّة أو نقص المترجمين في لغات معينة. في هذه الحالات تكون الترجمة عبر لغة وسيطة (الإنجليزية أو الفرنسية) شيء مشروع. ولكن أن يُترجم كتاب إسباني أو ألماني مثلاً عن اللغة الفرنسية رغم وجود مترجمين أكفاء لهاتين اللغتين، فهذا شيء لا أعتبره مفيداً. هناك أعمال أدبية عظيمة ما كان لنا أن نقرأها في أيامها، لو لم تترجم عن طريق لغة ثانية. رواية غوته الشهيرة "آلام فِرتر" ترجمها في الأربعينيات أحمد حسن الزيات عن الفرنسية، وقدّم الترجمة طه حسين. عندما أنظر في هذه الترجمة اليوم، أقول: نعم، فيها أخطاء كثيرة، وأحياناً تبتعد عن الأصل، ولكنها جميلة، وكانت مهمّة في عصرها. فما يفقده النص عبر اللغة الوسيطة، يستطيع أديب مقتدر وأستاذ في البلاغة أن يعوّضه بأسلوبه. ولكن إذا كان ذلك مُبَرّراً في زمن مضى فهو غير مقبول الآن".

المساوئ تمنع التطوّر

وبما أن مساوئ الترجمة عن لغة وسيطة، هي ما قدح زناد الحوار مع جريس، فقد سأله "ملحق الثقافة" أن يعدّ بعضها. فصّل جريس قائلًا: "للترجمة عن لغة وسيطة مخاطر عديدة، أبسطها الابتعاد عن "صوت" المؤلف وسمات أسلوبه وإيقاع النص؛ وأكثرها خطورة نقل اجتهادات المترجم الوسيط وتأويلاته كأنها إبداعات صاحب النص الأصلي، هذا فضلاً عن الأخذ بأخطاء الترجمة الوسيطة، وإضافة أخطاء أخرى ترتكبها أية ترجمة. نقطة أخرى أعتقد أنها مهمّة: الاعتماد على الترجمة عبر اللغات الوسيطة يمنع نشوء أجيال جديدة من المترجمين عن اللغات التي نعتبرها نادرة الآن، كالتركية أو الفارسية أو اليابانية. لدينا كليات تدرّس هذه اللغات، وتخرّج في كل عام مترجمين مبتدئين، ينبغي تشجيعهم ومنحهم فرصتهم؛ فالترجمة، كأي علم، تتطور بالتراكم. أما إذا ظللنا نستعين بمترجمين يترجمون عن الإنجليزية أو الفرنسية، فسنظلّ ندور في فلك هاتين اللغتين فحسب".

لكن الأمر لا يتعلّق كما هو معروف، بـ المعرفة اللغوية، فحسب. بل يتعلّق أيضًا بالأسلوب والبراعة. ذلك لأن ترجمة مباشرة عن لغة أصلية، لكنها غير قوية، تؤدّي في حال اعتمادها ثانية إلى أخطاء لا تكفّ عن التوالد. يمثّل جريس لذلك قائلًا: "من الممكن جداً أن تتسلل الأخطاء إلى الترجمة المباشرة. وما بيّنتُه مرّة من هنات في ترجمة الأستاذ القدير فاضل العزاوي - وهو شاعر وروائي مشهود له - يرجع في ظني أساساً إلى عدم إجادته الألمانية بشكل كاف. فلنفترض أن مترجماً تركياً أو أفغانياً، يجهل الألمانية، اعتمد ترجمة مماثلة لينقلها إلى لغته. هل تتصور النتيجة؟".

اللغات أخوات؟

وممّا لا شكّ فيه أن الفروق "القليلة" بين بعض اللغات الأوروبية، تزيّن لبعض المترجمين المجازفة، كأن يقدم متمكّن من اللغة الإسبانية، على الترجمة عن اللغة البرتغالية مثلًا، على اعتبار أنهما من جذر لاتيني أو إيبيري واحد. وليس استعمال لفظ "إيبيري" النازل من الجغرافيا، أمرًا نافلًا. ذلك لأن الحدود المتبدّلة طوال قرون داخل القارة الأوروبية، أثّرت بشكل كبير في ما اختطته اللهجات واللغات المحلية لنفسها من طرق. "طرقٌ لغوية"، إن جاز التعبير، يمكن التمثيل لها، بتلك الفروق اللغوية بين هولندية بلجيكا وهولندية هولندا.

صحيح أن اللغات الأوروبية تفرّعت من اللغة اللاتينية، إلا أن مرور قرون على الأمر، والتطوّر الذي لحق باللغات، وغيرها من الأمور، تجعل من مجازفة المترجم، أمرًا لا يقلّ خطورة عن الترجمة من لغة وسيطة. ونظرًا إلى تمكّن سمير جريس من اللغة الألمانية، و"مغامرته المحسوبة" ربّما في الترجمة عن اللغة "السويسرية" و"النمساوية". توجه "ملحق الثقافة" صراحة، لسبر الأمر، من أجل معرفة إن كان ثمة تمايزات لغوية ما، تفرّق ما بين اللغات في ألمانيا وسويسرا والنمسا، أو إن كانت ثمة اختلافات لغوية تميّز كل بلد عن الآخر في استعماله للغة الألمانية. جاءت إجابة جريس مقتضبة: "هناك بالطبع مثل هذه الفروق، وهناك كلمات تُستخدم في النمسا لا تُفهم في ألمانيا، ولا يستخدمها أحد في سويسرا. ولكن تبقى هذه الفروق في إطار محدود، وبالاستعانة بالقواميس يسهل التغلب عليها في الترجمة. هذه الفروق أقلّ بقليل من الفروق بين اللهجات العربية المختلفة".

ومنذ أسابيع قليلة ترجم سمير جريس للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش بعد أن مُنحت نوبل 2015. سفيتلانا التي تكتب بالروسية، مرّت في مصفاة اللغة الألمانية إذن قبل أن تصل إلى لغة الضاد. ما حتمّ الاستفسار عن الأمر. فنّد جريس الموضوع: "كان هذا استثناءً فرضته جائزة نوبل، وكان تعريفاً سريعاً بالحاصلة على جائزة هذا العام. كل أعمال سفيتلانا ألكسييفيتش مترجمة إلى اللغة الألمانية. واللغة الألمانية قريبة إلى حدّ كبير من اللغة الروسية. وعندما أُعلن نبأ فوزها بجائزة نوبل، لم يكن أحد في العالم العربي سمع باسمها، ناهيك عن أن يكون قد قرأ لها شيئًا. بعد أن طالعت بعضاً من أعمالها، أعجبني أسلوبها، لا سيما في كتابها "آخر الشهود" الذي ذكّرني على الفور بقصص فولفغانغ بورشرت التي ترجمتها قبل سنوات في مجموعة "سن الأسد". ولهذا قمت بترجمة بعض نصوصها. ولكنني لا أنوي مطلقًا أن أواصل ترجمة أعمالها. هذه مهمة الزملاء الذين يترجمون عن الروسية مباشرة".

مترجم وناقد

قدّم سمير جريس للمكتبة العربية 18 عملاً مترجماً عن اللغة الألمانية، لكنه الآن في صدد إعداد كتاب عن الكاتب الألماني غونتر غراس، الحائز على جائزة نوبل عام 1999، وأعماله وشخصيته الإشكالية، ودوره المؤثّر في الأدب الألماني الحديث. عن العلاقة بين المترجم والناقد وكيف يمهّد الأوّل للثاني، قال جريس: "أعتقد أن دور المترجم ودور الناقد متداخلان. لقد سعيت منذ بدايات عملي بالترجمة الأدبية إلى أن أكتب مقدّمة تمهيدية نقدية للعمل الذي أترجمه؛ تجد ذلك في أوّل كتاب صدر لي عام 1998 بعنوان "شدو البلبل" الذي تضمن قصصاً قصيرة للكاتب فولفغانغ بورشرت. الشيء نفسه حدث مع الأعمال التي ترجمتها لكتّاب عديدين، منهم هاينريش بول وإلفريده يلينك وفريدريك دورنمات. هذا الدور النقدي اضطلعت به أيضاً عبر عشرات المتابعات النقدية التي نشرتها في الصحف، أما الكتاب عن غونتر غراس فعنوانه "غونتر غراس: مواجهة ماضٍ لا يمضي"، وأتناول فيه أهم أعمال حائز نوبل، وأسلّط الضوء على عصره عموماً والسياق الذي ظهرت فيه أعماله، وهو في ظنّي الكتاب النقدي الأوّل باللغة العربية عن قارع "طبل الصفيح".


الترجمة لا تُطعم خبزًا، والجوائز تقدير منعش

لا يبدو واقع الترجمة في العالم العربي جيدًا، رغم وجود مؤسسات عديدة، وهي في غالبيتها تابعة لمؤسسات رسمية، إذ إن مساهمة دور النشر في الترجمة، بمعنى "اقتطاعها" حصّة من السوق، أثّر على ما يبدو في الأتعاب التي تدفع للمترجم. ولا يبدو المترجم المصري جريس صاحب أوهام في هذا المجال، بل لعله انتهز فرصة السؤال عن الأمر ليسهب قائلًا: "هذا سؤال جيد، وينكأ جراحاً عديدة لديّ. بالفعل، عندما أنظر إلى الوراء، أجد أن إنجاز كلّ هذه الترجمات كان بمثابة الحرب، ولا سيما أن الترجمة ظلّت بالنسبة لي عملاً جانبياً، أمارسه بعد ممارسة مهنة "أكل العيش". ترجمة الأدب من أشقّ الأعمال، ومع ذلك فإن مردودها المادي هزيل في معظم الحالات. ويزداد الأمر تعقيداً عندما يعيش المترجم العربي في الخارج، ويحصل على مكافآت "عربية" أو "مصرية". لك أن تتخيّل أني مرّة ترجمت كتاباً بأكمله لدار نشر سورية، ولم يتجاوز ما حصلت عليه من أجر أكثر من 200 يورو، يعني لا يصل إلى نصف أجر ساعات قليلة في الترجمة الفورية في أوروبا. لولا أنني أحب ما أعمل، ولولا شعوري بالمتعة خلال عملي، ما كنت واصلت عملي في الترجمة الأدبية. كما أن التكريم المعنوي والأدبي الذي حظيت به كان دافعاً لي، ولذلك أود هنا أن أشكر كل من كتب عن ترجماتي وشجعني وأشاد بالجهد المبذول بها، وخصوصا أستاذتي في جامعة القاهرة الدكتورة ناهد الديب، وكذلك النقاد والكتّاب: علاء الديب ويسرى مقدّم وصنع الله إبراهيم ومنصورة عز الدين وعناية جابر، فلولا هؤلاء لما واصلت طريقي".
وإن بدا المردود المادي أدنى إلى نكء الجراح، إلا أن الجوائز على ما يبدو تؤدّي دورًا معاكسًا، فقد حصل سمير العام الماضي (2014) على جائزة الترجمة الأدبية من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية من معهد غوته بالقاهرة. وعلى ما يبدو أن الجائزة ولّدت لديه شعورًا خاصًا: "هو الشعور بأن هناك مَن يتابع عملك ويقدّره. يحضرني تشبيه استخدمته دوريس كيلياس التي ترجمت ما يزيد عن عشرين عملاً لنجيب محفوظ إلى اللغة الألمانية. كيلياس شبّهت مترجم الأدب بعدّاء المسافات الطويلة: إنه يعدو وحده، لا يتحدث مع أحد إلا مع صوت الكاتب، يستنفد كل طاقته من دون أن يعرف: هل سيصل إلى هدفه أم لا؟ الجوائز تقول للمترجم: لست وحدك، هناك من يتابع ركضك ولهاثك ويقدّر عملك".
المساهمون