اللغة سلاحٌ ذو حدّين

23 نوفمبر 2015
لوحة للفنان الكندي جيل مايرز (Getty)
+ الخط -
اللغة سلاحٌ ذو حدّين، و"يمكن استخدامها للإعلام أو للتضليل والمخاتلة"، كما يقول نعوم تشومسكي. من يمتلكها، للتأثير على الآخر إما بتخديره أو بتنويره، بإخضاعه أو بتحريره، يمتلك السلطة.
فهي سلاح الطغاة والظلاميين: تبدأ سيطرتهم على الإنسان بترسيخِ لغةٍ خشبيّةٍ سلفيّةٍ تغلق أبواب التساؤل، وتفرض الخطوط الحمراء على التفكير الحر، وتُسبِّحُ للطاغية أو "للحزب الواحد"، وتمنع الروح النقدية والمعارضة والرفض.

يبدأون خطاباتهم، أكانوا شموليين أو ظلاميين، بالشكل والمضمون نفسه: استشهادات قطعيّة بمقولات إيديولوجية أو دينية قاطعة، هي الصحيحة التي يلزم الإيمان المطلق بها. هدف هذا الخطاب منذ فاتحته: إلغاء الإرادة الخاصة والتفكير الحرّ والجدل.

اقرأ أيضًا: متى بدأ الإنسان؟

ثم تتجذّر هيمنتهم على الإنسان عندما يجيدون استخدام اللغة للسيطرة على دماغه، عبر المدارس ووسائل الإعلام، وعبر تعليم تاريخٍ لا علميٍّ ملفّق، وإلغاءٍ ممنهج للذاكرة. بذلك يجعلون الإنسان كائناً يعشق عبوديتَهُ طوعاً، ويعتنق الإيديولوجيا التوليتارية أو الأفكار الظلامية ويدافع عنها بيقين كلّي.

يقول وزير الإعلام النازي جوزيف جوبلز: "بفضل معرفةٍ عميقة ببسيكولوجيا الناس، وبفضل التكرار، يمكن برهنة أن المربع دائرة".
وتتأبّد أخيراً هيمنتهم على الإنسان عندما يقاومون تجديد اللغة وتطويرها، لتظلّ كما هي: لغة الأجداد. ولأن ثمّة علاقةً فيزيولوجية بين اللغة والتفكير، يظلّ الأخير تفكيراً بروح عصر الأجداد.

اقرأ أيضًا: الأسلوب هو الإنسان

لا يوجد أعمق من جورج أورويل في روايته العظيمة "1984"، حيث يرسم طرائق سيطرة "الأخ الكبير" على إنسان "أوراسيا"، عبر لغة "النوفالانج" التي لم تكتفِ مثلاً بتثبيت شعارات مثل "الحرية هي العبودية"، بل سعَتْ إلى إلغاء كلمات من القاموس ومحوها تماماً، كـ "الحرية"، ليختفي مفهوم "الحرية" بذلك أيضاً.

ذلك لأن مساحة العالم الذي نحيا فيه، هي مساحة اللغة التي نستخدمها. ومساحة التفكير هي مساحة القاموس اللغوي الذي يستند عليه. لذلك فإن تقليص هذا القاموس بحرمانه من كلّ كلمات الحضارة والمعارف الحديثة التي تتدفُق يوميّاً، ولا تجد لها مرادفاً في اللغة هو تقليص للتفكير وإضعافه.

يعود الاهتمام الكبير بهذه الرواية الاستشرافية، مجدّداً اليوم، بسبب تطوّر التجسّس الآلي، الذي تراقب لاقطاته اليوم "البيانات العملاقة"، وتسعى للسيطرة على الإنسان على غرار أخطبوط أجهزة "الأخ الأكبر" في رواية أورويل العبقرية.

اقرأ أيضًا: لغة آدم

لا يكتفي هذا الأخطبوط في الرواية، بمراقبة كل صغيرةٍ وكبيرة في حياة البريطانيين الذين تنتصب في كل شوارع مدينتهم لوحات عليها هذه العبارة الشهيرة: Big Brother is watching you، أي "الأخ الأكبر يراقبكم"، بل يستطيع بفضل قواعد نحويّة وقاموسية للغة النوفالونج، تستعرضها الرواية بالتفصيل، منع الشك والتساؤل والجدل والتفكير.
وليست لغة السيطرة التضليلية على أدمغة الناس، سهلة الكشف والدحض والتعرية. إذ إنها تستند على أبديّةٍ من التجارب التاريخية، والمعرفة بخارطة نفسيّة الإنسان.

لذلك أوصى نعوم تشومسكي بأن يكون هدفنا الأوّل، الاهتمام بأدمغتنا والحفاظ عليها من تأثيرات المنظومات العقائدية والخطابات التضليلية للدولة ووسائل الإعلام: "لو كان لدينا مدرسة جيّدة، لكان أوّل موادها التدريسية: تعليم الدفاع الذاتي لدرء هذه التأثيرات"، كما يقول.
واللغة أيضاً سلاح التنويريين والأحرار والثوريين: بها يوقظون لدى الإنسان روح حبّ الحرية، وينشرون التنوير والمعارف. يحرّرون الدماغ من تضليل ثقافة الطغاة والظلاميين وثوابتهم الإيديولوجية. يقارعون بها، عبر الأدب ومن خلال الخطاب التنويري، لغةَ التخلف والتقوقع والانكفاء.

يؤججون الحلم، يفجّرون الأمل والبهجة، ويشيّدون ثقافة "حريّة الضمير" والانفتاح على الآخر.
كلّ الثورات، التي نقلت الإنسانية إلى الأمام، منذ الثورة الفرنسية حتّى سقوط نظام التمييز العنصري، وسقوط عدد من الأنظمة القمعية الأيديولوجية في العقود الأخيرة، لم تنتصر إلا لأن لغةً جديدة قاومت بنجاح اللغة الخشبية أو الظلامية السائدة.

وذلك منذ لغة قرن الأنوار الذي مهّد للثورة الفرنسية، إلى لغات مقاومة الستالينية السوفيتية وطغاة العالم الثالث، مروراً بـ "لغة ربيع براغ" عام 1968، من "أجل اشتراكية بوجهٍ إنساني"، تألّقتْ أثناؤه الإبداعات الأدبية المناهضة للتوتاليتارية، والنشاطات الأدبية تحت الأرضية Samizdat، لِتُفجِّر لدى الناس مزيداً من العطش للانعتاق والحرية.

تحرير اللغة من المسلمات الظلامية، ومن الكذب والتضليل، ومن عداء العِلم والحريّة والآخر، ومن سلطة فقهاء الظلمات، يتطلب لغةً ثائرةً حرّةً مناهضة، تتناغم مع العصر، تتجدّد قواميسها كلّ عام، تنفتح على الحداثة شكلاً ومواضيع كل لحظة، وتفتح فضاءات الحرية والخلق والإبداع على مصراعيها.

اقرأ أيضًا: نحن والتجسس الآلي

لغةٌ ترفض لغة الطغاة والظلاميين الخشبية الموبوءة الممسوخة، فتواجه منعهم للتفكير والنقد والرأي الشخصي، بلغة مضادّة: "لغة الدفاع الذاتي"، كما أسماها تشومسكي، لغة الحريّة من دون قيدٍ أو حدود. تواجه طمسهم للإنسان وتضليله، بفضل لغة الحقيقة و"الأنا" الحرّة، لغة الإنسان الذي يصنع ذاته متحرراً من السلطات كلّها.

كل شيء يبدأ بالكتابة والإبداع. الكتابة أوّلاً، حربٌ ضدّ هدفِ السلطات القمعية الأوّل: النسيان. يقول ميلان كونديرا: "نضال الإنسان ضدّ السلطة، هو نضال الذاكرة ضدّ النسيان".
ثمّ إن الكتابة هي المدخل الرئيس لثقافة التنوير والعقل والمعرفة البهيجة، ولِنشر لغة الحريّة والمقاومة والثورة وتجذير قيمهم في حياة الإنسان.

وهي الوسيلة لِمعرفة الآخر الذي تسعى الثقافة الظلامية لِطمسِه، والطريق للتفاعل معه والتوحّد به تحت شعار: "أنا الآخر".
هي وعاء الجدل الحي، والتجديد الدائم، واليقظة من تأثير لغة الظلمات والتوليتارية. أي باختصارٍ شديد: لغة بناء الحضارة والدفاع عنها وتطويرها المتواصل.
فكما يقول فريدريك نيتشه: يكمن دور اللغة في تطوير الحضارة، في اتكاء الإنسان عليها لبناء فضاء متماسك صلب يهزّ به العالم ويسيطر عليه.
المساهمون