الجلّاد كـ"إنسان عاديّ"!

23 نوفمبر 2015
لوحة للفنان الكندي جيل مايرز (Getty)
+ الخط -
يشير الأستاذ مصطفى بيومي في سياق الحوار معه هنا، إلى دوره في فضح آلية تعذيب التجأ الأميركيون إليها في العراق وغيره تتمثل بـ"الموسيقى". 
ومثل هذه الآلية- كما التعذيب بشكل عام - بحاجة أكثر من الموسيقى إلى جلّادين، أو بالأصح بحاجة إلى بشر يؤدّون "هذه المهمة على الوجه المطلوب"!.

وقد تناول الكثير من الكتاب والمفكرين بالدرس والتحليل منذ منتصف القرن العشرين الفائت، موضوع كيفية تحويل البشر إلى جلادين وإلى آلة طيعة للقتل والدمار وبالأساس عبر الاستناد إلى نموذج ألمانيا النازية.

وبغية تقريب الموضوع من تجربتنا المخصوصة، سأتوقف بقدر من التفصيل عند وقائع محدّدة حدثت لدى قيام الجيش الإسرائيلي بارتكاب مجزرة كفر قاسم - وهي قرية فلسطينية في منطقة المثلث داخل فلسطين 48 - مساء يوم 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، أثناء قيام إسرائيل بشن عدوان على مصر في إطار ما سيسمى لاحقًا "حرب سيناء".

اقرأ أيضًا: من السماء إلى الأرض

كان الفلسطينيون في الداخل في ذلك الوقت خاضعين تحت وطأة حكم عسكري مُشدّد، وتروي الوثائق الإسرائيلية الرسمية أنه "بهدف التأكد من عدم حدوث أي مشكلات من جانبهم في أثناء تلك الحرب تقرّر فرض حظر التجوال على جميع القرى والبلدات العربية والتي كانت تخضع أصلًا لحظر تجوال ليلي ابتداء من الساعة التاسعة مساء، لكن هذه المرة تقرّر تبكير حظر التجوال ليبدأ من الساعة الخامسة مساء".

وتضيف تلك الوثائق: "أثار ذلك مشكلة، مؤداها ما العمل مع سكان القرى العائدين من العمل والذين لم يعلموا أو يبلغوا بتقديم موعد حظر التجوال؟"، بيد أن قائد لواء الجيش لم تكن لديه أي مشكلة، إذ أجاب على سؤال "ما الذي سنفعله بهؤلاء؟" قائلًا: "الله يرحمهم".
ونقل قائد الكتيبة هذه الأوامر بحرفيتها إلى جنوده. وعندما سأله أحد كبار الضباط في الكتيبة، عما يمكن عمله مع النساء والأطفال الذين يخرقون حظر التجوال؟ أبلغه قائد الكتيبة مقتبسًا كلام قائد اللواء "الله يرحمهم". وأضاف: "هذه أوامر قائد اللواء. تطبيق حظر التجوال، من دون اعتقالات، من دون عواطف أو رحمة. يجب إطلاق النار على كل من يخرق حظر التجوال".
وحين ألح هذا الضابط في السؤال "وماذا نفعل مع العائدين من العمل؟"، كرّر قائد الكتيبة قائلًا: "من دون عواطف".

اقرأ أيضًا: قوة اللغة

يجدر بنا التوقف عند عبارة "من دون عواطف".
فكُتُب تاريخ متعدّدة تذكر أنه عندما شُرع في ارتكاب أعمال قتل جماعية في الإمبراطورية السوفياتية في إبان عهد ستالين، تباهى القتلة بالقول إنهم "مُجرّدُون من العواطف البرجوازية". ونُقل عن ستالين قوله وقتئذ "إن أي مشكلة تنشأ (نتيجة أعمال القتل هذه) ستكون منحصرة في إنسان معين. وفي غياب مثل هذا الإنسان (وكاد أن يقول الشاذّ) لا توجد مشكلة".

وهذا الشعار تبناه أيضا النازيون. فنموذج رجل الـ"إس. إس" (النازي) فظّ، خالٍ من الشفقة والعواطف، ومستعد لتنفيذ أي أمر مهما يكن بغيضًا، ومستعد لقتل النساء والأطفال أيضًا، ذلك لكون الرأفة بهم في حدّ ذاتها تُختزل بأنها "عواطف".

إلى أي مدى يكون نموذج رجل كهذا إنسانًا عاديًا.
المؤرخ الأميركي كريستوفر براونينغ ادعى في كتابه "رجال عاديون - كتيبة احتياط الشرطة الألمانية 101 والحل النهائي في بولندا" أن رجالاً عاديين، وليسوا بالضرورة نازيين، ولا حتى لديهم هوس "معاداة السامية"، تصرفوا بحماسة قتالية لـ"اقتلاع جذور اليهود من بولندا".
ولكي يثبت ادعاءه هذا، استشهد المؤرخ بواقعة مثيرة للاهتمام بشكل خاص: "بعد عرض المُهمة الموكلة إلى أفراد الكتيبة والمتمثلة في قيام المجندين بإعدام النساء والأطفال والشيوخ القاطنين في قرية بولندية صغيرة والبالغ عددهم 1800 يهودي، شعر قائد الكتيبة ببعض الحنق على الأمر الصادر له مما دفعه إلى اقتراح رفض الاشتراك في المهمة على أولئك الذين لا يملكون القوة على المشاركة، إلا إنه لم يرفض إتمام هذه المهمة سوى 12 رجلًا فقط من بين مجمل أفراد الكتيبة البالغ عددهم 500 مجند".

اقرأ أيضًا: تدريب العين أخلاقيًا

ووضع براونينغ في مقدمة دوافع هذه السلوكيات الإجرامية، بعض العوامل التي أبرزها آخرون غيره على غرار: امتثال المجموعة للأوامر؛ قوة الروابط الاجتماعية؛ تقسيم وتنظيم العمل ولا سيما التجريد البطيء لليهود من السمات الإنسانية.
بناء على كل هذه الوقائع لم يكتف القضاة في "محاكم نيرنبيرغ" للمجرمين النازيين بالاعتراف بحق الفرد في عصيان القواعد الظالمة فحسب، وإنما دانوا أيضًا أولئك الذين امتثلوا للأوامر. وبمقتضى هذا القرار تحوّل الحق في إعلان العصيان على أمر غير قانوني أو ظالم إلى واجب يستوجب عدم تنفيذه توقيع عقوبة مناسبة.
دلالات
المساهمون