من أجل أن تكون القدس بداية

27 اغسطس 2017
من مواجهات الأقصى (Getty)
+ الخط -

مني الاحتلال في الأيام الماضية بهزيمة مدوية أمام الحشود الشعبية الفلسطينية التي تجمهرت لمنع الاحتلال من تنفيذ مجموعة من الإجراءات التي تحد من حرية حركة الفلسطينيين ومن حرية ممارستهم لطقوسهم الدينية داخل المسجد الأقصى، ليضطر مكرها" تحت ضغط الحراك الشعبي إلى تفكيك وسحب الأبواب الإلكترونية وكاميرات المراقبة ذات المجسات الحرارية، التي كان قد زرعها على خلفية استهداف ثلاثة شبان فلسطينيين من مدينة أم الفحم لعناصر من شرطة الاحتلال مخلفين قتيلين في صفوفهم قبل استشهاد الشبان الثلاثة على أيدي باقي عناصر شرطة الاحتلال في باحات المسجد الأقصى. ليتخذ الاحتلال من العملية الفدائية الفردية (أي غير المنظمة) ذريعة لزيادة إجراءاته في المدينة المقدسة التي تحد من حرية عبادة الفلسطينيين داخل المسجد الأقصى. وهو ما يمثّل امتداداً لإجراءاته في الحد من حركة المقدسيين ومن قدرتهم على الصمود. فقد حاول الاحتلال حرف مسار الأوضاع بداية من محاولته حشد تضامن عالمي مع الشرطيين القتيلين وإدانة الشهداء الثلاثة، الأمر الذي يضفي نوعاً من الشرعية على وجود عناصر الاحتلال داخل الأراضي المحتلة وداخل ساحات المسجد الأقصى، في مواجهة الحقيقة المثبتة سياسيا" وقانونيا" باعتباره قوة احتلال من حق أي فلسطيني التصدي لها ومقاومتها، ومن ثم حاول الاحتلال استغلال العملية الأخيرة لفرض مزيد من القيود على الفلسطينيين، وهو ما نجح الحراك الشعبي في إفشاله اليوم، لكن مع ضرورة الحذر من مكر وغدر الاحتلال، إذ تشير بعض التقارير والأخبار الواردة من الداخل المحتل إلى عزمه على إعادة المحاولة بعد أن تهدأ الهبة الجماهيرية وبطرق ووسائل مختلفة قليلا". لكن وعلى الرغم من أهمية الحفاظ على حالة التعبئة والحذر فلسطينيا" لأي محاولة قد يقدم الاحتلال على فرضها في قادم الأيام والأشهر، أجد من واجب الوطنيين والثوريين البناء على المكتسبات المعنوية والسياسية المنتزعة بقوة الحركة الشعبية من أجل إعادة الاعتبار للنضال الفلسطيني وإعادة الاعتبار للحقوق الفلسطينية والعربية المستلبة.

فمن المؤسف أننا بتنا مضطرين للتذكير بحقوقنا على خلفية التشويش والتحريف الإعلامي والسياسي الحاصل اليوم، لاسيما الصادر عن القيادات الفلسطينينة السياسية، فالحقوق الفلسطينية المستلبة تتلخص في الحق بتحرير كامل الأراضي المحتلة منذ 1948، مما يضمن تطبيق حق عودة جميع الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم وأملاكهم بما فيها مدينة القدس، تلك المدن التي صادرها الاحتلال واستولى عليها بغطاء دولي وإقليمي أحيانا وبغطاء قانوني أحيانا أخرى من خلال شرعية القانون الدولي أو من خلال قانون الاحتلال الذي يخول السيطرة على الكثير من الممتلكات والأراضي الفلسطينية، وقد عمل البعض ممن يدعي تمثيل الفلسطينيين وممن يدعي الحرص والغيرة على المصلحة العربية والفلسطينية على تقزيم هذه الحقوق التاريخية وفقا للقانون والشرعية الدولية، متناسين تمثيل القانون الدولي لمصالح وغايات القوى المسيطرة على حساب تمثيله للشرعية والمرجعية التاريخية والعلمية، حيث لا يخفى على أحد سيادة قانون الغاب على حساب العدالة والحق الإنساني عموما والفلسطيني خصوصا.

فلقد أثبتت السنوات العجاف السابقة عجز العملية السلمية عن استعادة هذه الحقوق التاريخية، كما ثبت عجزها عن انتزاع الحد الأدنى منها وفقا للقانون الدولي. ليكشف الشعب الفلسطيني وبتجربته الذاتية خطأ الادعاءات الفلسطينية الرسمية والفصائلية حول صوابية البرنامج المرحلي الذي تبنته في العام 1974، وهو البرنامج المبني على الانطلاق من الحقوق الفلسطينية المعترف بها دوليا من أجل استعادة كامل الحقوق الفلسطينية التاريخية، ليكون البرنامج المرحلي هو الأب الشرعي لما يعرف اليوم بالعملية السلمية أو باتفاق أوسلو المشؤوم. فعلى الرغم من اعتراض بعض القوى السياسية الفلسطينية على إدارة القيادة الفلسطينية لعملية السلام أو الاستسلام عمليا، إلا ان الخلل الحقيقي هو خلل الاستراتيجية والبرنامج سابق الذكر. حيث تمنح هذه الاستراتيجية شرعية ولو مؤقتة للاحتلال ولممارساته فضلا عن انطلاقها الخاطئ من شرعية القانون الدولي ومن سطوته ومن قوته المزعومة، وكأن عملية استعادة الفلسطينيين للحقوق المعترف بها دوليا هي عملية تلقائية لا تتطلب الضغط على الاحتلال كما لاتتطلب إجباره عليها. كما تتناسى استحالة الضغط على الاحتلال دوليا ولاسيما من الدول الأقوى، تلك الدول التي تمثل الناظم والمقرر الحقيقي لما يدعى بالقانون الدولي، فهي ذات القوى التي تحمي وترعى الاحتلال من ما قبل النكبة وحتى اليوم.

كما أثبتت استراتيجية التكافؤ العسكري أو استراتيجية المقاومة الاستعراضية فشلها كذلك، كونها الاستراتيجية الفضلى للتصدي لها من قبل الاحتلال. وهو ما شكل دافعا إضافيا لإقدام الفلسطينيين مؤخرا على أعمال المقاومة الفردية والعفوية، في ظل الظروف المحلية الرسمية الغارقة في التسليم والاستسلام للاحتلال، وكذلك الظروف العربية المتخلية عن القضية الفلسطينية عموما. ليبحث الشعب الفلسطيني ذاتيا دون الاستعانه بأي قوى منظمة فلسطينية كانت أم عربية عن وسائل عسكرية ولو كانت بسيطة ومحدودة التأثير لكنه قادر على ممارستها اليوم على الرغم من كل هذا السواد المحيط، وبالرغم من عجز الخيار العسكري الفردي المتبع اليوم عن إلحاق ضرر ملموس ببنية الاحتلال إلا أنه يخلق هالة من الهلع والترقب في بنى الاحتلال العسكرية وغير العسكرية.

لذا وعلى خلفية التجربة الفلسطينية المريرة مع جميع القوى والفصائل الفلسطينية ومع ثبوت عجزها العملي عن استعادة كافة الحقوق الفلسطينية المستلبة (أي التاريخية)، وعلى خلفية النجاعة والنجاح الأخير للحركة الشعبية الفلسطينية الثورية، لا بد من العمل على تطوير حركة التحرر الشعبي منه والمسلح كذلك، على قاعدة الوحدة والشمولية النضالية التي تتطلب العمل النضالي على كافة الأصعدة والمجالات السياسية والحقوقية والعسكرية، والاكتفاء الذاتي للتخلص من سطوة الهيمنة المالية واللوجستية، والعمل السري والمنظم مما يحد من تكلفة المقاومة البشرية والمادية، فلا وجود لطريق آخر لاستعادة الحقوق العربية والفلسطينية المستلبة سوى طريق النضال والمقاومة الشعبية المنظمة طويلة الأمد بالرغم من الظروف الدولية والإقليمية المناهضة لها.

 

 

المساهمون