تجاهل فلسطينيي الخارج

23 يوليو 2017
يستضيف الأردن العدد الأكبر من فلسطينيي الشتات (Getty)
+ الخط -
حسب المعلومات الصادرة عن مركز الإحصاء الفلسطيني في رام الله نهاية العام المنصرم 2016، فقد بلغ تعداد أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ما يزيد على 12.7 مليون نسمة، ويمثل اللاجئون منهم 66.8%، ويعيش في داخل فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة والأرض المحتلة عام 1948 ما يقرب من 6.4 ملايين نسمة، ويعيش خارج فلسطين 6.3 ملايين نسمة منهم 5.6 ملايين نسمة في الدول العربية، خصوصاً تلك المجاورة لفلسطين، ويعيش الباقي في أوروبا وأميركا، وباقي دول العالم.

حاز فلسطينيو الخارج خلال الفترة الممتدة من 1967 وحتى 1982 على ذروة اهتمام منظمة التحرير الفلسطينية كونهم يمثلون الخزان الاستراتيجي لفصائل المقاومة الفلسطينية، التي استطاعت خلال هذه الفترة حشد الشعب الفلسطيني خلف مشروع التحرير والعودة وتقرير المصير، ولكن هذا الالتفاف الفلسطيني خلف خيار التحرير لم تتوفر له الحاضنة العربية الداعمة، بل تشكلت له منذ فجر انتصاراته في الكرامة عام 1968 حالة عربية ناقمة تمثلت في مجازر أيلول ضد تشكيلات المقاومة الفلسطينية، وحصار بيروت عام 1982 الذي تكلل بحالة عربية صامتة عملت في ما بعد على الفصل بين الفدائي الفلسطيني وسلاحه ليغدو ألعوبة بأيدي أنظمة عربية ساقته قسراً تارة، وطوعاً أخرى نحو أوسلو وألقت به في غياهب المفاوضات.

ترجع جذور إهمال منظمة التحرير الفلسطينية لفلسطينيي الخارج إلى صيف عام 1982 إذ ترك خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت بعد صمود أسطوري أثراً بالغاً على حضور منظمة التحرير في المشهد السياسي وتراجع دورها الذي تم استعادته في عام 1988 على أثر الانتفاضة المباركة التي انطلقت في قطاع غزة، ومن ثم في الضفة الغربية عام 1987م لتصب منظمة التحرير جل اهتمامها نحو فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة مستثمرة المقاومة السلمية التي فاجأت الجميع باستمرار جذوتها متقدة، فساهمت مشاركة منظمة التحرير في قيادة الانتفاضة في إعادتها لتصدر المشهد، ولكن لم تستثمر المنظمة هذه الانتفاضة في تجسيد وحدة الشعب الفلسطيني الذي عبر عن التفافه حول الانتفاضة بشتى الصور الممكنة، فمنذ انطلاق مفاوضات مدريد 1992 بدأت خيوط التهميش تتسلل إلى واقع فلسطينيي الخارج؛ لا لشيء سوى أن منظمة التحرير انشغلت بعملية السلام التي تنكرت عملياً لوجود فلسطينيي الخارج، فأجندة المفاوضات التي انطلقت من أوسلو لا تشملهم، بل أنكرت وجودهم، مما أحدث حالة من الفراغ السياسي لدى فلسطينيي الخارج تتحمل مسؤوليتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.

يتعرض فلسطينيو الخارج للتهديد من خلال عدد من المؤامرات التي تهدف إلى توطينهم في سيناء وحرمانهم من العودة إلى فلسطين، ففي مطلع مارس عام 1955 خاضت الجماهير الفلسطينية مواجهات دامية مع القوات المصرية التي تصدت للمظاهرات التي انطلقت في قطاع غزة وقادها الإخوان المسلمون والشيوعيون ضد مشروع الرئيس الأميركي ليندون جونسون عام 1953 لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في شمال سيناء، ورفع المتظاهرون شعار "لا توطين ولا إسكان ... يا عملاء الأمريكان"، كان عدد من التقارير التي أعدها خبراء في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين قد أكد على عدم صلاحية المنطقة المخصصة في سيناء لإسكان اللاجئين، بسبب نقص المياه العذبة وعدم صلاحية الأرض للزراعة.

لم تغب فكرة توطين الفلسطينيين في سيناء عن أذهان القادة الصهاينة، ولا عن خططهم الاستراتيجية، فهي فكرة تعدّ تطبيقاً للحلم الصهيوني بالتخلص من الشعب الفلسطيني وتوطينه وذوبانه في بيئات خارجية، وقد ظهر في هذا الصدد عدة مشروعات، منها؛ مشروع (إيغال آلون) والذي ظهر سنة 1967، والذي سعى لاستثمار احتلال سيناء إثر حرب حزيران 1967 لتنفيذ مشروع التوطين في سيناء الذي عجزت عنه الإدارة المصرية في ما سبق، ومشروع مستشار الأمن القومي الصهيوني غيورا أيلاند سنة 2004، والذي دعا إلى تنازل مصر عن 600 كيلومتر مربع من سيناء بغرض توطين اللاجئين مقابل أن يتنازل الكيان الصهيوني عن 200 كيلومتر مربع من أراضي صحراء النقب لصالح مصر، ومنحها بعض المكاسب الاقتصادية، وخطة (يوشع بن آريه) سنة 2013، والتي تنص على أن تُمدَّد حدود قطاع غزة إلى حدود مدينة العريش لتضم مدينتي رفح والشيخ زويد لقطاع غزة، ومن ثم توطين اللاجئين الفلسطينيين فيها، وهو ما يعني أن موضوع توطين الفلسطينيين في سيناء حاضر حتى الآن في العقل الصهيوني.

تجدد الحديث مرة أخرى عما يسمى "صفقة القرن" وذلك بالتنازل عن جزء من أرض سيناء لإقامة وطن للفلسطينيين بديلا عن حدود يونيو 1967، -الذي فشلت مفاوضات التسوية في الوصول إليه- وهو ما أوردته صحيفة "هآرتس" في 19 /2 /2017، التي كشفت عند انعقاد مؤتمر سرّي في 21/ 2/ 2016 في مدينة العقبة الأردنية بمشاركة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وجون كيري وزير الخارجية الأميركي، والملك عبد الله ملك الأردن، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وبالرغم من نفي نتنياهو لوجود مقترح مصري لتأجير أرض للفلسطينيين في سيناء لتوسيع دولتهم المنتظرة، إلا أنه أقر بانعقاد مؤتمر العقبة، غير أن هناك ثمة ما يثير القلق من وجود مخططات إسرائيلية لتوطين الفلسطينيين في سيناء؛ ومن احتمال تعرض النظام المصري لضغوط متزايدة للقبول بها، خصوصاً أنه يعاني من ضغوط سياسية واقتصادية وأمنية كبيرة.

اتساع مساحة المشاركين في ما يسمى "صفقة القرن" في حد ذاته يزيد من الشعور بالخطر، في ما يتعلق بفلسطينيي الخارج خصوصا أولئك الموجودين في الدول العربية، والذين يبلغ عددهم 5.6 ملايين نسمة وازدياد احتمالات ممارسة الضغوط عليهم لإجبارهم للرحيل نحو سيناء حيث شهدت السنوات الماضية عدة تحركات ضد الفلسطينيين مثل ما جرى ضد فلسطينيي الكويت إثر أزمة الخليج عام 1990، ومحاولة طرد الفلسطينيين من ليبيا في عام 1994، وطرد الفلسطينيين من العراق الذي بدأ في عام 2004، وما يتعرض له الفلسطينيون في لبنان من تضييق في سبل العيش والعمليات العسكرية للجيش اللبناني في المخيمات هناك، وما جرى للمخيمات الفلسطينية في سورية، والتضييق على الفلسطينيين في الإمارات، وما يجري من فرض رسوم على الإقامة بشكل مضاعف على الفلسطينيين في المملكة العربية السعودية، كل هذه الإجراءات قد تشكل معاً أرضية لتحقيق إقامة الوطن البديل للفلسطينيين الذي رفضه الأردن خلال العقود الماضية، والذي سيشكل تهديداً استراتيجياً (لإسرائيل) في حال تنفيذه في الأردن، كون الأخير أقرب إلى خاصرة العمق لفلسطين المحتلة، وبالتالي فإن حل إقامة الوطن البديل في شمال سيناء أفضل استراتيجياً للأمن الصهيوني، وبذلك يمكن النظر إلى عمليات الجيش المصري في شمال سيناء التي تصاعدت في النصف الثاني من عام 2013؛ ربما تكون خطوة نحو إيجاد بيئة مواتية في داخل سيناء لتقبل هذا المشروع.
يجري الحديث عن سيناريو يتمثل في احتمال قيام الجيش الصهيوني بحرب مدمرة على قطاع غزة تؤدي إلى تهجير أعداد منهم إلى سيناء، تكون نواة لنجاح فكرة التوطين بما سيوفر لها من التسهيلات والمغريات اللازمة لذلك، لتكون أكثر جذبا للفلسطينيين الذين يضيق بهم الحال في أماكن إقامتهم الحالية، ولأولئك الذين تضطرهم بيئاتهم السياسية إلى الرحيل فيكون في نواة مشروع التوطين في سيناء حل لهم.

خلال أكثر من سبعين عاماً لم يستطع أحد الرهان على كسر إرادة الشعب الفلسطيني الذي تمكن خلال سنوات الصراع من إفشال كل المؤامرات التي حيكت ضده في الظلام، لذلك أستطيع الجزم بأن فكرة ما يسمى بـ"صفقة القرن" في النهاية هي واحدة من سلسة المؤامرات التي هدفت إلى القفز عن حقوق الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة وتقرير المصير، ويشهد التاريخ أن هذا الشعب يمتلك إرادة صلبة في إفشال مخططات التوطين؛ وهذا هو المصير المحتوم لصفقة اللئام بعدما أماطت ثورات الربيع العربي عن وجههم اللثام.

وللحقيقة، فإن ما يعرف بـ"صفقة القرن" تستهدف أيضاً الفلسطينيين الموجودين في قطاع غزة كما تستهدف فلسطينيي الخارج، فالفلسطينيون في غزة يشكلون حاضنة للمقاومة التي فشلت "إسرائيل" في حسم المعركة معها لصالحها، بل كانت النتائج على عكس توقعاتها بخسارتها على المستوى العسكري والسياسي والأخلاقي، لذلك فإن كشف المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من خلال خروج مئات الألوف من السكان إلى سيناء يعطي القوات الصهيونية فرصة افضل لتطبيق سياسة الأرض المحروقة في المناطق التي يتم تفريغ السكان منها بما يوفر لها فرصه أفضل لحسم المعركة مع المقاومة الفلسطينية.

من الضروري أن تتكثف الجهود الفلسطينية لمنع تطبيق خطة توطين الفلسطينيين في سيناء والعمل على عرقلته؛ مع الإقرار بالخلل الكبير في موازين القوى الإقليمية لصالح الطرف الصهيوني، فإن الأدوات السياسية والديبلوماسية والإعلامية هي الأدوات المتاحة في هذه الحالة، وهذا يستدعي:

*تفعيل فلسطينيي الخارج في سياق تعزيز الانتماء والهوية الوطنية لدى الأجيال الجديدة منهم، ويتم ذلك من خلال تفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية لتشكيل لوبي فلسطيني مدعوم عربيا وإسلاميا في مواجهة اللوبي الصهيوني على الساحة الدولية.

*حالة الفراغ في الساحة السياسية الفلسطينية تجاه قضايا الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ناتجة عن تغييب دور منظمة التحرير بمؤسساتها الديموقراطية المنتخبة والممثلة للكل الفلسطيني، وتبع هذا إهمال قضايا فلسطينيي الخارج، الأمر الذي ساهم في تجدد أزماتهم مع كل حراك سياسي في المنطقة، مثل أزمة فلسطينيي الكويت وفلسطينيي العراق وفلسطينيي سورية وكذا... الخ.

*يعتبر فلسطينيو الخارج كتله حية تتمثل في عدد كبير من المؤسسات الفلسطينية التي تحمل هموم الشعب الفلسطيني، ولكنها لن تكون فاعلة بالقدر الكافي في ظل غياب الناظم السياسي الذي يربطها بساحة العمل السياسي الفلسطيني ضمن رؤية وطنية واحدة.

*تمتين العلاقة مع القوى الحية في الشعب المصري؛ فكل من الشعبين المصري والفلسطيني، يمثلان عقبة حقيقية أمام تنفيذ خطة الوطن البديل، وإن الروح الوطنية والقومية والإسلامية، مع تكريس حدود الدولة القُطرية تشكل موانع ودوافع حقيقية ضدّ التوطين.

*تحرص السلطة الوطنية الفلسطينية على عدم التطرق للمسائل الحساسة، وعلى رأسها قضية اللاجئين، كما أن المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي لن تسمح بمرور مخططات كهذه بكافة الطرق.

*السياسات الرسمية العربية ما تزال ملتزمة حتى الآن برفض التوطين وبحق العودة للاجئين، لذلك يجب الاعتماد عليها في مطالبة الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وحركة عدم الانحياز باتخاذ مواقف حاسمة، وإصدار بيانات تحذر من تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين من خلال مشاريع التوطين.

* التوجه للمنظمات الفاعلة في المجال الإنساني والحقوقي واستصدار بيانات تحذر من توطين الفلسطينيين خارج ديارهم، ودعم أي توجه قضائي للناشطين الحقوقيين في مصر يرفض فكرة توطين الفلسطينيين في سيناء، مع التأكيد على الوحدة الجغرافية لفلسطين بما فيها الضفة الغربية وقطاع غزة.

(باحث في الشأن الفلسطيني)




المساهمون