فلاحات يرعينَ الأبقار في جبال تونس

05 اغسطس 2019
لا بد ّمن استراحة (العربي الجديد)
+ الخط -

يُعَدّ العمل في القطاع الزراعي من بين الأنشطة الأكثر إجهاداً، ولا سيّما للمرأة التي اعتادته منذ فجر التاريخ. في الريف التونسي، ما زالت النساء ينشطنَ في هذا المجال، سواء في الزراعة أو في تربية الماشية وما إليهما

من جبال عين دراهم بمحافظة جندوبة شمالي تونس، مروراً ببنزرت وسجنان وصولاً إلى باجة وسليانة والكاف وحتى سيدي بوزيد (وسط)، وغيرها من المحافظات التي يحظى فيها القطاع الزراعي بحيّز كبير، تعمل النساء الريفيات الفلاحات في مختلف المجالات الزراعية، وسط ظروف صعبة تزيدها الجغرافيا والمناخ قساوة. وإلى جانب كونهنّ ربّات منازل يتدبّرنَ شؤون عائلاتهنّ، فإنّ هؤلاء التونسيات يعملنَ في الأراضي الزراعية ويحضرنَ الحطب من الجبال والمياه من العيون البعيدة، ويجمعنَ النباتات الجبلية وما إلى ذلك. أمّا المهمة الأكثر صعوبة فهي رعي الأبقار، وخصوصاً مع ما يفرضه ذلك من تنقّل لمسافات طويلة وسط تلك الجبال بحثاً عن مراعٍ بعيدة عن الأراضي الزراعية.




الفلاحات التونسيات بمعظمهنّ، لا يعرفنّ ما الذي يدور في بلادهنّ، وهنّ غير معنيّات بأيّ قضية اقتصادية أو اجتماعية أو غير ذلك، علماً أنهنّ لم يرتدنَ المدارس. ويحاولنَ مجاراة الحياة القاسية انطلاقاً من الجبال التي يسكنّها. وهؤلاء النسوة، قد تصادفهنّ في أيّ منطقة جبلية تقصدها، فتلاحظ أنهنّ يتشابهنَ في الشكل ويتقاسمنَ التعب والمعاناة نفسهما، وإن اختلفت تفاصيل حياة كل واحدة منهنّ. كلّ من يقابلهنّ لن يفوّت ملاحظة الأحذية الضخمة التي ينتعلنَها لتحميهن من خطر الزواحف والانزلاقات، وكذلك الملابس التي تغطّي كامل أجسداهنّ لتقيهنّ برد الشتاء وأشعّة شمس الصيف اللاهب والخدوش التي قد يصبنَ بها من جرّاء التنقل بين الأشواك وأغصان الأشجار. وفي خلال رعيهنّ الأبقار، تحمل كلّ واحدة منهنّ زادها وعصا تتكأ عليها في سَيرها، وتستخدمها لتصويب مسار أبقارها خلال الرعي الذي يُعَدّ مورد رزقها الوحيد.

جميلة (38 عاماً) واحدة من راعيات الأبقار، تنطلق في يومها عند الساعة الخامسة صباحاً، وتُوجّه بقراتها إلى المراعي الخضراء بين الجبال التي تقع على بعد مسافات طويلة من قريتها. تقول لـ"العربي الجديد": "أبحث قبل كلّ شيء عن العشب الصالح لقطيعي"، فيما يساندها كلبها في إبقاء أبقارها مجتمعة أو في إعادة توجيه مسارها. وتشير جميلة إلى أنّها تكابد الأمر منذ 12 عاماً، مضيفة أنّها تؤدّي "مهام أخرى من قبيل زراعة الأرض والحصاد". تجدر الإشارة إلى أنّ عين دراهم في محافظة جندوبة واحدة من أكثر المناطق خضرة في تونس، فهي تتميّز بمخزون غابيّ كبير. فما على راعية الأبقار سوى اختيار مكان لترعى فيه أبقارها، فيخفّ عبء العلف المركّز الباهظ الثمن.

من جهتها، تقود ربح (45 عاماً) أبقارها بعصاها المصنوعة من غصن زيتون غليظ، فيما تستند إليها خلال صعودها المرتفعات، أو خلال محاولتها إرخاء جسدها المنهك من ملاحقة الأبقار. تخبر "العربي الجديد": "أرعى الأبقار منذ أكثر من عشرة أعوام، إذ إنّ تلك المهمّة كانت من قبل مقتصرة على الرجال، فهي تتطلب بنية جسدية قوية. لكنّ الأمر بالنسبة إليّ يتطلّب خفّة في الحركة، فيما التقدّم في السنّ يصعّب المهمة على الراعيات في المناطق الجبلية". وربح كذلك تجتاز مسافات طويلة بحثاً عن مراعٍ بعيدة عن الأراضي الزراعية، وتلاحق قطيعها حتى لا يتشتّت شمله في الغابات. وكثيراً ما تركض وراء أبقارها محاولة منع سقوطها إحداها في نهر أو ضياع أخرى وسط الغابات.

تجدر الإشارة إلى أنّ هؤلاء النساء بمعظمهنّ، لا يعملنَ كأجيرات عند أصحاب مزارع، بل تكون قطعان الأبقار التي يرعينَها ملكاً للعائلة ومورد رزقها، إمّا من خلال بيع العجول وإمّا من خلال بيع الحليب. ويتراوح عدد ما ترعاه الواحدة منهنّ ما بين خمس أبقار وعشر. فهنّ يُصنّفنَ من بين صغار الفلاحين. وهؤلاء الفلاحات يرعَينَ الأبقار طوال أيام السنة، منذ ساعات الفجر الأولى ولا يعدن أدراجهنّ إلا قبل غروب الشمس بقليل. وعلى الرغم من تحصّن الإرهابيين في بعض الجبال، فإنّ الأمر لا يثني الراعيات عن عملهنّ، ولا سيّما أنهنّ مضطرات إلى تأمين غذاء مجانياً للأبقار نظراً إلى ارتفاع ثمن العلف المستورد.




وتفيد بيانات الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، بأنّ النساء في المناطق الريفية يمثّلنَ نحو ثلث مجموع التونسيّات مع 32.4 في المائة، ويُمثّلن كذلك نصف السكّان في الوسط الريفي مع نسبة 50.2 في المائة. وفي السياق، يعتمد القطاع الزراعي بدرجة أولى على قوّة العمل النسائية، ويستوعب نحو نصف مليون امرأة، أي ما يقدّر بنحو 43 في المائة من النساء الناشطات في الوسط الريفي، علماً أنهنّ يمثّلنَ 65 في المائة من اليد العاملة في القطاع الزراعي.
المساهمون