تونس تغرق كلّ مرة

16 ديسمبر 2018
يعبر "النهر" (ياسين قايدي/ الأناضول)
+ الخط -
حتى سنوات قليلة مضت، كان التونسيون يستشهدون بفيضانات سنة 1969 كمثال لكارثة طبيعية تسببت فيها الأمطار، وانطلقت بعدها محاولات حماية المدن من الفيضانات خصوصاً أنّ أودية (أنهاراً) كثيرة تشق مدن تونس. لكنّ فيضانات السنوات الأخيرة أنست المواطنين ذكريات 1969، فالكوارث حلت بمدن كثيرة لم تستثنِ الجنوب الحار.

تؤكد الستينية عزيزة، من محافظة الكاف (شمال غرب) لـ"العربي الجديد" أنّها لم تشهد في الماضي غرق المدن والشوارع مثلما هي الحال اليوم، فأغلب الأراضي كانت فلاحية وتستوعب الأمطار، مهما كانت غزارتها. توضح أنّ المدن توسعت لكنّ الطرقات ظلت على حالها، وقد ساهم تزايد عدد المباني في تقلص المساحات والأراضي الزراعية إلى جانب تواجد الإنسان بالقرب من الأودية، وانتشار المباني العشوائية التي باتت تشكل عائقاً كبيراً أمام تصريف مياه الأمطار.

تعتبر عزيزة أنّ وضع الطرقات سيئ، وقنوات الصرف الصحي عاجزة عن استيعاب مياه الأمطار التي تتدفق في وقت وجيز، خصوصاً إذا كانت غزيرة، مشيرة إلى أنّ الأمطار في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كانت في بعض الأحيان تنزل بكميات كبيرة، يرافقها البرَد والانخفاض الشديد لدرجات الحرارة، وبالرغم من ذلك لم تكن المدن تغرق كما اليوم. تتابع أنّ الفيضانات باتت كثيرة، خلافاً للماضي حين كان فيضان واحد يقع كلّ سنوات، أما اليوم، وبعد سنوات من الجفاف ونقص الأمطار، فقد زادت الفيضانات حتى خلال الأشهر الماضية بشكل غير مسبوق.



الخبير البيئي المتخصص في التنمية المستدامة، محمد عادل الهنتاتي، يدعو إلى الانتباه إلى الخطر الكبير الذي يهدد المدن التونسية في ظل تزايد مخاطر الفيضانات والأمطار الغزيرة. يضيف لـ"العربي الجديد" أنّ أغلب المدن التونسية تغرق سريعاً فالبنية التحتية لا يمكنها أن تستوعب التيارات القوية المتأتية من الأمطار الغزيرة، ولا يمكنها تصريف مياه الأمطار، وهي عاجزة عن تأدية وظائفها على الوجه المطلوب، لأنّ نسق هطول الأمطار تغير، وما كان مقسماً على 6 أو 8 أشهر، يهطل في يوم أو يومين، وهو ما حصل في عدة محافظات تونسية أخيراً.

يوضح أنّ مدينة مارث، في قابس، جنوب تونس، شهدت يومي 11 و12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 هطول 220 ملم، وهي في العادة تحصل سنوياً على 170 ملم، وفي نابل يوم 26 سبتمبر/ أيلول الماضي هطلت في أربع ساعات كميات عادة ما تحصل عليها المحافظة خلال 3 سنوات، وبالتالي فإنّ أيّ بنية تحتية حالية عاجزة عن تحمل مثل هذه الكميات الكبيرة. يؤكد الهنتاتي أنّ ما تشهده تونس من تواتر سريع للأمطار القوية والفيضانات يؤكد ما استشرفته الدراسات التي تناولت آثار وانعكاسات التغيرات المناخية التي بينت أنّ التوزيع الفصلي والتوزيع المجالي للأمطار سيتغير مع ارتفاع ملحوظ في حدة الأمطار وامتداد إلى فترات الجفاف.




يتابع أنّه لا بدّ من الفصل بين أسباب تتعلق بالبنية التحتية وبعوامل أخرى خاصة، فجميع بلدان العالم المتقدم وغير المتقدم شهدت فيضانات خلال السنوات الخمس الأخيرة، وبالتالي فإنّ المشكلة لا تتعلق بالبنية التحتية وحدها، موضحاً أنّ السلطات إذا ما أرادت توسعة القنوات تصريف مياه الأمطار والنهوض بالبنية التحتية، يلزمها ما بين 10 سنوات و15 على الأقل. يشير إلى أنّ دراسات البنية التحتية وقنوات الصرف السابقة لحظت ما يعادل ربع الكميات الحالية، وإذا جرت التوسعة الآن مع لحظ زيادة الكميات، سترتفع الكلفة عن تقديرات تلك الدراسات.

يقول الهنتاتي إنّ التساؤل المطروح اليوم هو: هل المشكلة التي تتسبب فيها هذه الأمطار مشكلة ظرفية يمكن تجاوزها بعد إصلاح العطل في وظائف قنوات تصريف مياه الأمطار وكلّ مكونات البنية التحتية التي من شأنها أن تحمي المدن والأحياء السكنية من الفيضان أم لا؟ يضيف أنّ هناك غياباً للإدراك حول واقع الحال من قبل الأطراف الفاعلة في مجال حماية المدن من الفيضانات. ويشير إلى أنّ ما يروّج حول أنّ الأمطار في الفترة الأخيرة أكثر حدة، ولا تأتي إلاّ مرة واحدة كلّ مائة سنة أو ألف سنة، غير صحيح، لأنّ هذا النوع من الأمطار، بل أقوى منها، شهدته عدة مدن تونسية خلال العشرية الماضية، وبالتالي، فإنّها ليست بأمطار نادرة، كما يريد البعض إيهام الرأي العام، للتقليل من حجم مسؤوليته عن الأضرار.



يفيد أنّ المسألة متشعبة، فالفيضانات لا يمكن منعها، مبيناً أنّ كميات الأمطار خلال هذا الموسم، بلغت 48 مليار متر مكعب، لكنّ جميع السدود بما فيها 260 سداً جبلياً، و850 بحيرة جبلية، لم تستوعب إلاّ ملياراً و800 مليون، والبقية جرفت إلى البحار وحملت معها التراب. يتابع أنّ بعض المواطنين يبنون بيوتهم بحسب ترتيبات التهيئة العمرانية (النموذج الرسمي للبناء) وينجزون جميع التراخيص الضرورية لذلك، مع ذلك تغمر مياه الأمطار مساكنهم، والمسؤولية هنا تقع على عاتق الجهة التي تشرف على إعداد نماذج التهيئة العمرانية، والتي أدرجت مجاري الأودية المغمورة ضمن المناطق السكانية، لذلك ظلت تعاني حتى اليوم من تبعات ذلك. يوضح أنّ قوانين التهيئة العمرانية التي تعتمدها البلديات في منح تراخيص البناء كانت تأخذ بعين الاعتبار التربة والمناطق التي تكون عرضة للفيضانات والعديد من العوامل، مثل تدفق المياه وتجمّعها، واليوم هناك تجاهل لنموذج التهيئة، وبات العديد من مكاتب الدراسات يعدّ بطرق عشوائية نماذج التهيئة والمناطق السكنية، ولا يراعي مجاري الأودية، حتى أنّ العديد من تلك المجاري، طمر وبنيت فوقه تجمعات سكانية. يشير إلى أنّ شارع الحبيب بورقيبة في نابل، الذي غرق أخيراً، كان في الماضي وادياً، وبالتالي فمن الطبيعي أن تغرق المنطقة.

يقول الهنتاتي إنّ البناء خارج إطار نماذج التهيئة العمرانية، والتمدد السريع للمدن داخل وخارج تلك النماذج، ساهما مباشرة في مضاعفة منسوب السيول عند هطول الأمطار المعتادة، مضيفاً أنّ الدراسات لو أخذت بعين الاعتبار المنسوب الحقيقي للسيول لتفادت الفيضانات في المدن. يحمّل المسؤولية للدولة التي كان عليها التصدي لمثل هذه الخروقات. يفيد أنّه بحكم عمله في دراسة الفيضانات، ولأنّه متخصص في إعداد الدراسات الاستشرافية، فقد أعد رفقة آخرين، في العام 1977، نموذجاً لحماية منطقة منزل بوزلفة من الفيضانات، ولذلك هي لم تغرق اليوم. يشير إلى أنّ الحماية كانت تعتمد حلولاً بسيطة إذ جرى توجيه تدفق الوادي على 3 فروع، وبالتالي لم يعد يتجمع في مكان واحد. يؤكد أنّ الحلول ممكنة وقد أعدّوا دراسة أخيراً لحماية قابس من الفيضانات، وقد عُرضت قبل أيام على البلدية.




يدعو الهنتاتي الأطراف المسؤولة، إلى حماية المدن من الفيضانات، خصوصاً أنّ تواتر الأمطار الغزيرة سيزداد حدة في السنوات المقبلة. ويدعو إلى المسارعة في وضع الدراسات الاستشرافية والاستئناس برأي الخبراء، مبيناً أنّه يعدّ حالياً، رفقة مجموعة من الخبراء من مختلف الاختصاصات، وبدعم من "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID"، دراسات ستقدم كهبة إلى بلديات تونس، وستستفيد منها 31 بلدية تفتقر إلى الخبرة في التعامل مع الفيضانات والمشاكل المناخية الكبرى.
المساهمون