في الوقت الذي يعزف فيه الناس عن سكن البيوت القديمة، لاجئين إلى الحداثة بكل تطوراتها في البناء والتكنولوجيا والترميم، يتشبث العديد من الفلسطينيين بالتاريخ والبيوت العتيقة، والمقتنيات القديمة بكل تفاصيلها.
يلفت الانتباه في حي رفيديا إلى الغرب من مدينة نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة، بيت عتيق ما زال قائما بين البيوت والعمارات السكنية الحديثة، ولا يزال محافظاً على منظره الجميل وحجارته التي تعود لزمن بعيد، محاطاً بالأشجار المزروعة حوله، كما بقي مدخله على شكله الأول منذ أن أنشئ.
على ظهر هذا البيت علقت لافتة كبيرة الحجم، خُط عليها اسم المكان "بيت جدّي". وضعت اللافتة ليراها المارة من جانب البيت، بعد أن حوله أصحابه إلى مقهى شعبي تراثي يحافظ على شكله الأول، أدخلوا عليه بعض الترميم البسيط دون تغيير معالمه، ليحافظوا على بيتهم الذي يحبون، ويحفظون ذكرياتهم فيه منذ أن كانوا صغارا.
داخل البيت، كل التفاصيل ما زالت كما كانت، وعند عملية الترميم التي نفذها الشقيقان علاء وباسل سعادة، وهما مهندسان معماريان، حاولا قدر الإمكان عدم إدخال تغيير يذكر من معدات الحداثة والديكور والجبص المعتمد اليوم في الأبنية الجديدة، بل بحثا عن المواد التي لا تحدث فرقا في حجارة وبلاط البيت، وحاولا إظهار تاريخ بيت جدهما وإبرازه ليحافظوا على تاريخ الأجداد والآباء.
ويقول مدير المقهى علاء سعادة لـ"العربي الجديد": "بُني هذا البيت عام 1934، وعاش فيه جدي جريس سعادة مع شقيقه وشقيقته، وهو مكون من طابقين. وشيّد على الطراز الإنكليزي الحديث في حينه، وكان أول بيت يُبنى خارج قرية رفيديا القديمة قبل أن يتم ضمها إلى نابلس البلد".
وعلى الرغم من أن البيت لم يكن مجاوراً للبيوت حينها، إلا أنه كان عامرا دوما بالزوار والأصدقاء، إذ كان الجد جريس سعادة يعمل في علاج وتجبير الكسور على الطريقة الشعبية العربية، ويأتيه زبائنه من مختلف المناطق للعلاج.
عندما اشتعلت الحرب بين الدول العربية والاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وقبيل احتلال الضفة الغربية، كان الفلسطينيون يبتعدون عن المنازل خوفا من القصف الإسرائيلي، وفي تلك الفترة اتخذ الأردن من منزل عائلة سعادة مقرا للدفاع المدني التابع لها، وكان يعالج فيه كافة المصابين، نظرا لبعده عن المدينة وموقعه الاستراتيجي، وفق ما يقوله سعادة.
ويشير إلى أن الطابق السفلي من المنزل، تحول في نهاية السبعينيات من القرن الماضي إلى مدرسة، درس فيها أطفال رفيديا مدة عشر سنوات، عرفت باسم مدرسة بنات رفيديا ونقلت بعد ذلك إلى بناية مقابلة للمنزل.
ظل البيت مسكونا إلى مطلع العام الماضي، وانتقلت عمّتيا علاء للسكن في منزل العائلة برفيديا، في حين قرر الأخوان علاء وباسل أن يفتحا مشروعهما الخاص فيه. ويوضح سعادة: "أبقينا كل شيء على قدمه، الأبواب والنوافذ والأقواس الحجرية عند المداخل ظلت كما هي، باستثناء أعمال ترميم بسيطة منها الطلاء بذات اللون الذي كان عليه، وعملنا على تنظيف الحجارة القديمة، وتسليط الضوء عليها لإظهار جماليتها، وأبقينا البلاط والجدران وسقف البيت على حالها، مع إضافة بعض الديكورات التراثية اليدوية".
يحاول سعادة توفير أجواء مختلفة عن مقاهي المدينة، إذ يضع زاوية مكتبة تضم عددا من الكتب الثقافية المنوعة، مع أجواء هادئة بعيدة عن الصخب والضوضاء، ليوفر لزبائنه جوا للقراءة. ويعلق صورا لفنانين وشعراء ومثقفين على جدران المقهى، بالإضافة لتوزيع مقتنيات أثرية في غرفه تدلل على عراقة وتاريخ المكان. وينظم المقهى بين فترة وأخرى أمسيات ثقافية وفنية، يدعوان إليها فنانين ورسامين وعازفين، يروجان لها عبر صفحة المقهى على "فيسبوك".
ما يميز هذا المقهى عن باقي مقاهي المدينة، هو طبيعة البيت التراثي التاريخي الذي يحبه الكثير من الناس، الذي استغله الأخوان سعادة، لخلق بيئة وأجواء تتميز عن باقي الأماكن العامة.
ووفق ابن عمهما، خضر سعادة الذي يعمل في المقهى: "إن زبائن المقهى الذي افتتح منذ خمسة شهور، اعتادوا على القدوم صباحاً لتناول طعام الإفطار الشعبي الذي نقدمه لهم، عدا عن حبهم للمكان وسؤالهم الدائم عن فعاليات ننوي تنفيذها في الأيام المقبلة"، مشيراً إلى أنهم يعملون على تنفيذ أمسية فنية مع عازف عود وأغان شعبية وطنية.