يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(29 ديسمبر)
قرّرنا، ليلة أمس، أن نحتفل بعيد ميلاد ياسر. أقمنا له حفلة عيد ميلاد خاصة. أوقدنا النار الكبيرة، وقمت بتحضير الشكشوكة في قِدْرٍ كبير جداً ربما أكبر مقلاة متوفرة في المخيّم حولنا. وهي المقلاة نفسها التي كنّا نحمل بها "الصاجيّة". بالكاد، استطاع أحمد ابن خالتي نور تدبّر أمر البيْض، فالأخير من الأشياء النادرة في حياة النزوح التي نعيشها. قبل الحرب، كان سعر كرتونة البيض لا يزيد عن 15 شيكلاً، الآن لا تستطيع أن تشتريها بـ80 شيكلاً. ثمّة جملة من الأسباب وراء ذلك، لعل أهمّها أن جلّ الدجاج البيّاض صار أصحابُه يذبحونه ويبيعونه للناس حتى يأكلوه لقلّة توفر الدجاج. وبالتأكيد، لم يعد وجود مزارع للبيض في المناطق الزراعية الحدودية آمناً، وكثير منها داسته جرّافات الجيش، وهدمته الطائرات فيما هدمت. نجح أحمد بتأمين نصف كرتونة، وكان هذا كسباً وفيراً كما يمكن أن يقال. قطعنا البندورة وكسرنا عليها البيض، وجلسنا قرابة 20 فرداً حول المقلاة الضخمة، نأكل بنهم، ونحن نتمنّى لياسر أمنيات كثيرة في عامه السادس عشر، لعل أهمّها له ولنا أن تنتهي الحرب، وأن يحتفل بعيد ميلاده القادم في أجواء أفضل. بعبارةٍ أخرى، كنّا نتمنى له ولنا النجاة.
أحضر إبراهيم 12 علبة ذُرة، وسلقَها وبهّرها، وقدم لكل واحد صحناً من الذّرة. كانت طنجرة الذّرة الضخمة كعكة عيد ميلاد ياسر. سهرنا ثلاث ساعاتٍ متواصلة، نضحك ونمزح، ونزلت دموعنا من شدّة الضحك. وعلى عادة الفلسطينيين، قد تكون الدموع الكثيرة نذر شؤم للحظات حزن قادمة. "الله يستر من هالضحك" كما تقول أمهاتنا. كنت أسترقُ النظر إلى ياسر الذي عاش في الحرب كل هذه المدّة، حتى وجد نفسه يصير شاباً في ليلةٍ مُقمرة كتلك، حيث يجلس حوله 20 شاباً، لم يكن قبل الحرب يعرف منهم إلا أقلّ من عدد أصابع اليد، وأفكر أن المرء لا بد أن يكون محظوظاً حتى في لحظات الحزن.
لم يغب في سهرتنا الذين تركناهم خلفنا في الشمال. لدى كلّ واحدٍ منا عشراتٌ من الأهل ومن الأحبّة والجيران الذين ما زال قلقاً عليهم، وما زال لا يستطيع التوقف عن التفكير بهم. أخذنا فجأة نسأل عن فلان وعن فلانة وعن ابن فلان وعن ابن فلانة. وحين نسأل أسئلة مثل تلك، فهذا يعني أننا غرقنا في الحزن مرّة أخرى، وأننا استعدنا حقيقة ما نعيشه، رغم لحظات الفرح التي أدخلناها على نفوسنا ونحن نحتفل بعيد ميلاد ياسر في هذه الليلة. هناك قصص كثيرة جديدة، ومن الأخبار الطازجة المؤلمة أيضاً. وحين يمسك أحدُنا هاتفه الجوّال، ويقلب صفحات الأخبار، ثم يلتفت إلينا ندرك أن ثمّة خبراً سيئاً قادماً في وجوهنا مثل صاروخ. لا يمكن للمرء أن يهرب من واقعه، ولا يمكن له أن يغمض عينيه وأذنيه، كأنه لا يسمع ولا يرى. بالنسبة لياسر، لم يكن يتخيّل أنه قد يحتفل بعيد ميلاده في خيمة، وأن كعكة عيد ميلاده ستكون طنجرة من الذرة المسلوقة المبهّرة التي سيُحضر ليمونة ليعصرها على حصّته في صحنه الصغير. لم يكن يتخيّل أنه سينام من دون أن يعرف إن كان سيصحو أم لا، أو إن كان سيتمكّن من رؤية نفسه في المرآة أم لا. كانت تلك حفلة عيد ميلادٍ تناسب الأوضاع التي نعيشها وتناسب ما نواجهه من مخاطر لم تتوقّف يوماً، وظلت ترافقنا في كل تفاصيل حياتنا، حتى بلغ ياسر السادسة عشرة فجأة، من دون أن يحسّ ربما. قبل أيام، كان عيد ميلاد يافا. لم تحتفل هناء لشدّة حزنها على رحيل هدى وحاتم ومحمد ومصطفى وأبناء العائلة الآخرين. كانت يافا ترغب بإقامة حفلة عيد ميلاد، وكانت بالتأكيد ترغب بحضنٍ كبير وبهدية، حتى لو بالسر بعيداً عن أمها رغم الألم، فالحياة لا تتوقف. والآن ها هو ياسر يحتفل داخل خيمة بعيد ميلاده، ويحتفل الآخرون به ويحيطونه بالحبّ وبالأمنيات. كانت النار تخبو رويداً رويداً خارج الخيمة، ونحن نلملم ضحكاتنا وآهاتنا، ونستجمع بعض الشجاعة التي سنحتاجها ليوم غدٍ، حتى نواصل بقاءنا ونواصل نهوضنا في الصباح، مستقبلين يوماً آخر. قام الجميع، وهم ينثرون أمنيات الأحلام السعيدة فوق الرمل الأصفر البارد الذي تسير عليه أقدامهم العارية.
يلاحق الموت الجميع، ولا يترك القصف مكاناً لا يُصيبه
وصل الليلة وافدون جُدد من أبناء العائلة. لم يكن ثمّة مكانٌ يبيتون فيه. لذا تم تدبير فرشات ومخدات لهم من تلك التي ينام عليها الآخرون. وصل مصطفى وأمّه وأخواته من المغازي بعد سقوط القذائف على المنزل الذي كانوا يقيمون فيه، بعد أن نزحوا من بيتهم في حارتنا. يلاحق الموت الجميع، ولا يترك القصف مكاناً لا يُصيبه. نام ياسر من دون مخدّة، وكانت تلك حصّته من التضحية التي قام بها بعضهم من أجل أن ينام القادمون الجدد، فيما فرش هيثم بطّانية رقيقة ونام عليها. اقترحتُ عليه أن يثني طرف البطّانية، وبالتالي يحصل على مخدّة. راقته الفكرة. قلتُ لياسر إن المؤمنين أيام الرسول وفي سنوات الدعوة الأولى كانوا ينامون على أحذيتهم. وذكرت له قصة عمر مع المبعوث الرومي التي تنتهي بـ"عدلت فأمنت فنمت يا عمر". ضحك وقال إنه لن ينام على حذائه. ... جرّب، قلتُ مصرّاً. ثم مددتُ له مخدّتي. وقلت له: لا يجوز في عيد ميلادك أن تنام بلا مخدّة، على الأقل حتى لا تقع أحلامك على الأرض. رفض. كان الاقتراح الوحيد المقبول أن ينام على سُترتي. تناول السترة ووضعها تحت رأسه ونام. في الليل، كنت أنظرُ للشابّ الذي صاره وهو ينام في ليلة عيد ميلاده على سترةٍ رقيقةٍ بعد حفلة عيد ميلاد كبيرة أقمناها له. لا شيء يكتمل، لا الفرح ولا الحزن أيضاً.
رائحة الدخان في الصباح شارة بزوغه. في طفولتي، كان صياح الديكة هو تلك الشارة الأثيرة التي تقول إن النهار سيطلع من قلب العتمة بعد قليل. ما إن يصيح الديك، وتبدأ كل ديكة الحارة والمخيم بالصياح، حتى يبدأ البياض ينسلّ بالتدريج في نسيج عباءة الليل الذي يسحب ذيوله ويختفي. الآن في عالم الخيام، رائحة النار هي علامة بدء النهار. شممتُ رائحة النار. قبل ربع ساعة، سمعتُ صوت نداء صلاة الفجر. لم أكن متيقّناً إذا كنتُ أحلم أم أنني فعلاً سمعته. ولكن، بمجرّد تسلّل رائحة الدخان إلى أنفي، أدركت أن أحدهم استيقظ، وبدأ بإشعال ناره، حتى يبدأ صباحه بكأس الشاي ربما.
بعد قليل، بدأت رائحة النار أقوى، إذ استيقظ المزيد وأشعلوا نيرانهم. تذكّرت حكمت، حين قال لي إن "الدخان عطر البدوي"، والنار الآن هي علامتنا الفارقة في المخيم. إيقاد النار من تلك المهارات الأساسية المطلوبة في عالمنا الجديد. استيقظ الجميع. بدأ النهار. الدخان نار، والنار حين تشبّ تشبّ في كل النواحي. ثم بدأت أرى أعمدة الدخان صاعدة من بين الخيام، وبدأ النهار يصحو، وبدأ ضوءه يعمّ في النواحي. كانت النار في موقدنا قد خبت، وكانت طنجرة الذّرة في مكانها على طرف الموقد، كأنها تذكّرني بحفلة عيد الميلاد ليلة أمس. صحوتُ كما أصحو كل يوم. جلستُ على فرشتي أنتظر أن يفيق إبراهيم، ويأتي من خيمته إلى خيمتي، قبل أن يبدأ بإيقاد ناره لتحضير الحليب أو الشاي.
حياتنا كلها قسوة، وكلها تدمير، وكلما تقدّمنا إلى الأمام رجعنا إلى الخلف
وكان سوّاح قد قال مازحاً قبل ذلك إننا سنتفوق على كل شعوب الأرض في قدرتنا على التأقلم، ثم اختفت الحضارة، وسنتمكّن من العيش رغم قسوة الظروف. حياتنا كلها قسوة، وكلها تدمير، وكلما تقدّمنا إلى الأمام رجعنا إلى الخلف، لكن فكرة سوّاح أن شعبنا الفلسطيني، لكثرة ما عاش ولكثرة ما تعرّض له من تدمير وقهر، فإنه دائماً يبدع الحلول من أجل مواصلة الحياة. تخيّلوا لو انتهت الحضارة سيكون على الإنسان أن يعود إلى حياة النار وجمع الحطب، وابتداع أنواع طعامٍ جديدةٍ مما تبقى من نباتاتٍ مثلما نفعل الآن. مثلاً، في سوق المخيّم، هناك عشراتُ الحلويات المعروضة المصنوعة من جوز الهند ومن الفستق ومن السميد. لم أكن قبل ذلك أراها، ولم أكن لآكل واحدة منها لو رأيتُها. هل يتأقلم الإنسان مضطرّا؟ حين لا تملك خياراً لا تقدر على فعل شيء، إلا أن تحاول أن تجد خياراً آخر. والخيارات محدودة، وعالمنا عالم الخيام ضيّق، ومصدر قوّتنا الوحيد لمواجهة قسوة الحياة إرادتنا، الإرادة التي لا تستطيع كل أسلحة العالم المساس بها أو تدميرها. حين أسير في المخيّم، مثلما أفعل كل صباح، وأرى كيف يصحو الناس من الفجر من أجل أن يبدأوا يومهم بنشاط، كأن ما يقومون به هو حياتهم العادية حياتهم التي لم يقرّروا أن يعيشوها، لكنهم يمارسون مقدرتهم على البقاء، رغم قهر الظروف. وحين أنظر حولي، ولا أعرف إلى متى سيستمر كل هذا الواقع الجديد. أفكر أن خيار الناس الوحيد هو الاستمرار أيضاً.
بثينة ناشطة نسوية تدير مؤسّسة تقدّم المساعدات الإغاثية للنازحين في منطقة تلّ السلطان، قلقة من أن أحداً لا يوفّر الاحتياجات الأساسية للنساء. ابتسمتُ وقلتُ لها: كل واحد "وعلامُه"... كما يقول المصريون، بمعنى أن هذا اهتمامها واهتمام جمعيتها النسوية. كانت جادّة وحادّة، وهي تقول إنها تحاول السعي إلى توفير حمّامات خاصة بالنساء في المخيّمات العشوائية التي انتشرت غرب منطقة المواصي. تنتظر النساء ساعاتٍ أمام حمّامات لا تتوفّر فيها مياه، وهذا مربكٌ لهن وغير لائق. ... طلبتُ من مسؤول الهلال الأحمر أن يساعدها في توفير بعض الحمّامات المخصّصة للنساء. المساعدات التي تصل لا نحدّدها نحن، فقط نستقبل ما يرسلونه إلينا. لا توجد قائمة احتياجات. لم يكن النقاش مقنعاً، لكنه كان يكشف الكثير عن عالم الدعم الخارجي وصرخات الغضب الشكلية التي تخرُج من الحناجر. بالنسبة لبثينة، ما تحتاجه المرأة يجب أن يكون مؤسّساً على "النسوية". قالت، بابتسامة خفيفة: "شؤون نسوية". لا أحد يقدّم موادّ صحية للنساء. احتجّ مسؤول "الهلال"، وقال إن هناك طرودا صحّية نسوية. "ولكن ليست بكميّات كافية". طبعاً، لأنه لا يوجد حتى طعام بكمّيات كافية. في نهاية المطاف، الاحتياج أكثر من الموجود.
لسنا بخير في هذه الحرب. وكل يوم ننقص، وكل يوم الموت يزيد
كتبت لي هناء في الليل قلقة إن هناك قصفاً استُشهد على أثره نازحون من عائلة دياب في منطقة الشابورة. كان مصدر قلقها أن صديقي العزيز محمد دياب قد نزح هو وعائلته إلى رفح بعد أن نزحوا قبل ذلك إلى أبراج حمد في خانيونس. قلت لها إن محمّد في شارع زعرب، وهذا على طرف الشابورة. ... باتت هناء تعرف الأحياء والشوارع والحارات، وكل مناطق رفح، حتى تعرف وهي تتابع الأخبار بعد أي قصف أو قربه عنا، أنا وياسر ووالدها ووالدتها. شعرتُ ببعض القلق على محمّد. استُشهد 20 شخصاً. اتصلتُ على محمّد. حين تتصل على شخص تظنه قد قتل أو جرح ويرنّ هاتفه فهذا يعني أنه بخير، على الأقلّ ما زال ثمّة هاتف يمكن الوصول إليه. قال لي إنهم بخير، وأنهم يحاولون معرفة أفراد العائلة الآخرين الذي أصابهم القصف. ربما يكونون من عمومتهم النازحين من النصيرات. لم يكن متأكّداً، أما أنا فقد تأكّدتُ أن صديقي وعائلته بخير. هذا يكفي؟ بالطبع لا. لسنا بخير في هذه الحرب. وكل يوم ننقص، وكل يوم الموت يزيد. بدا صوت محمّد قلقاً وهو يسألني: وبعدين؟ لا أحد يعرف كيف يجيب عن هذا السؤال السحري، ولا أحد يقدر على تبصّر الغد.
كانت الليلة الماضية مُقمرة. كان القمر شديد الاحمرار، وكان كبيراً في أولها ثم بدأ يصغُر، وبدأت حمرته تخفّ. وصوت الانفجارات في كل مكان. أكثر من مرة أضاءت المساء بفعل اللهب الذي يخرُج مع الصواريخ، وبفعل القنابل التي تسقط من الطائرات. لم يتوقف صوت الطائرات، خصوصا تحليق إف 16 وهي تخترق حاجز الصوت وتذهب ثم تعود. كان كل شيء ملتهباً. كانت من تلك الليالي التي استعدنا فيها قسوة أيام الحرب في الشمال. كنتُ أحسّ بالأرض تهتز تحتي، وأنا نائم، تتمايل، وأشعر بنفسي أغوص عميقاً كأنني سأسقُط في هوّة سحيقة عما قليل. كانت القذائف والانفجارات قادمة من جهة الشرق الشمالي، أي شرق خانيونس، حيث تتصاعد وتيرة الحرب. وكلما حاولتُ النوم صحوتُ على هزّةٍ جديدة، وعلى انفجار آخر.