تحقيق التوازن والشعور بالرضا، تمهيداً للانتقال إلى السعادة والفرح، فلسفتان تخلقان إطاراً غير عادي في أزمنة الحروب وزيادة الفقر والتبدلات الاجتماعية بسبب الكوارث الطبيعية وسواها. واللافت أن الفلسفتين توجدان في ولاية سينوب التي تطل من شمالي الأناضول على البحر الأسود من أضيق جزء من شبه جزيرة بوزتيب، وتستأثر بأعلى مؤشر للسعادة لدى سكانها في تركيا، بنسبة 77 في المائة، بحسب هيئة الإحصاء المحلية، فيما لا تزيد نسبة الأتراك السعداء في باقي الولايات على 59 في المائة، بحسب آخر استطلاع للرأي.
ورغم أن الوضع الاقتصادي نال كثيراً من أسباب السعادة في تركيا، تبقى سينوب الأسعد والأكثر استغلالاً لجمالها الطبيعي وانسجاماً مع التبدلات، فهي قومية ومحافظة ومنفتحة في الوقت نفسه. وتتمتع سينوب بهدوء كبير، كذلك فإن طبيعتها خلابة وساحرة، وشواطئها نظيفة وبحرها نقي. وتعتبر السواحل والشلالات من ميزات الولاية التي تضم منتجعات للاستجمام تزيد سعادة سكانها والسياح الذين يزورونها.
ويرى الباحث في التاريخ يلماظ سوظان، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن اكتشاف مجموعة فسيفساء في سينوب يعود تاريخها إلى ما قبل 1600 عام، يستكمل عوامل الجذب التي تتمتع بها الولاية. ويشدد على أن المهم أيضاً في أعمال التنقيب التي تجري في الولاية، وأفضت إلى اكتشاف مجموعة الفسيفساء، تأكيد تاريخ المنطقة الذي يعود إلى تاريخ غابر مرّ بالحقب والحضارات الهلنستية والرومانية والعثمانية، وهذا ما تعكسه أدلة أثرية عثر عليها في الولاية لكنائس وحمامات وأدوات فخارية وخزفية.
الاسم المجهول
ويلفت إلى أن "سينوب عرفت رغم جمالها وخصوصيات طبيعتها وموقعها، من خلال قلعتها وسجنها السيئ السمعة، ثم تبدل ذلك العام الماضي إثر تحويل السجن بدعم من الاتحاد الأوروبي إلى متحف يتضمن مرافق ثقافية وفنية وخدمية، ما أزال سمعة القمع، وأكمل جمال سينوب". ومن أسباب جمال سينوب، بحسب سوظان، مناخها الخاص، فهي معتدلة الحرارة التي لا تتجاوز 30 درجة مئوية في الصيف، وتتمتع بمعدلات رطوبة مناسبة، كما أن شتاءها غير قاسٍ، إذ تهطل الثلوج لمدة أسبوعين سنوياً. ويعتبر البندق فيها من أجود الأنواع في العالم، علماً أنه يُزرع في ولايات تركية أخرى مثل دوزجى ومناطق في سكاريا وزونجلداك. ويشكل بندق سينوب العائد الأهم من الصادرات الزراعية السنوية في تركيا، والذي يتجاوز 1.5 مليار دولار، علماً أن ولاية سينوب تحتضن أيضاً زراعات أخرى كثيرة وثروة حيوانية كبيرة. ويشير إلى أن "اسم الولاية مجهول الهوية، رغم أن الأبحاث ترجعه إلى إحدى ملكات الأمازون. وتربط أساطير متداولة اسم المكان بحورية أسوبوس التي أسست سينوب".
شواطئ للفقراء
وتزخر الولاية بمعالم زادت عوامل الجذب التي تتصدرها الطبيعة البحرية والشكل المميز لسينوب المطل على البحر الأسود وامتداد الشاطئ نحو 100 كيلومتر. وأوصلت عوامل الجذب الكثيرة عدد زوار الولاية إلى نحو 1.5 مليون العام الماضي.
وربما الأجمل والأكثر إثارة للدهشة في سينوب هو شلال "آر فالك" الذي يقع في قرية تتلجا التي تبعد 42 كيلومتراً من مدينة سينوب، ويعتبر أولى عجائب الطبيعية في الولاية وأكثرها شهرة، ويتفرع منه 29 شلالاً تتدفق إلى بحيرة فيروزية تحيط بها الخضرة، وتشكل أحد أهم أماكن التخييم والسباحة.
وبين الأماكن المميزة الأخرى بحيرة أكغول "البحيرة البيضاء" المحاطة بغابة أشجار التنوب دائمة الخضرة، والتي تغمرها الثلوج خلال فصل الشتاء.
وغير بعيد عن أكغول تأتي شواطئ هامسيلوس التي تصنّف بين الأكثر هدوءاً، علماً ان ولاية سينوب تأتي في المرتبة الـ77 الأكثر هدوءاً والأقل صخباً بين ولايات تركيا الـ88. وبهدف منح الطبقة الفقيرة فرصة التمتع بهذه الشواطئ، خصصت سلطات سينوب شاطئ كاراكوم للعامة من أجل السباحة والاسترخاء على رمال سوداء تشكل سمة المنطقة.
نهاية الرعب
وبالانتقال إلى المعالم التاريخية لسينوب، تبرز مدرسة بيرفان التي تعود إلى أيام حكم الامبراطور السلجوقي ني بيرفان عام 1265 ميلادياً، والتي تحوّلت اليوم، على غرار سجن سينوب، إلى متحف للقطع الأثرية ومحلات لبيع التذكارات، وانتقلت من أحد المعالم الأكثر رعباً ومساهمة في قمع الحريات في الولاية إلى الأكثر جذباً من خلال مشاريع ثقافية تحدد هوية المكان ودوره.
ويعتبر سجن سينوب إلى جانب 116 سجناً معالم تشهد على سياسة القمع التي مارسها خصوصاً الرئيس أحمد كنعان إيفرين بعد الانقلاب الذي نفذه على حكومة سليمان ديميريل في ثمانينيات القرن الماضي، وذلك قبل أن تبدأ تركيا، خلال السنوات الأخيرة بإغلاق هذه السجون، وعلى رأسها سجن سينوب وسجن قلعة ديار بكر.
ويبقى متحف سينوب الأثري الذي شيّد عام 1970 المتحف الأهم في الولاية، ويتضمن أكبر عدد من القطع الأثرية التي جُمعت من مواقع مختلفة في أنحاء المدينة. ويشاركه هذه المكانة المميزة متحف سينوب الإثنوغرافي الذي يعرض التاريخ الثقافي للمنطقة، ويقع في قصر كبير يعود إلى القرن الـ18.
أما قلعة سينوب، فيعود تاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد. وقد استخدمت خلال الفترات الرومانية والبيزنطية والسلاجقة لحماية المدينة من الاعتداءات، ويقصدها سياح من محبي التاريخ لاكتشاف روعة الماضي بين جوانب هذا المبنى الأثري الرائع.
ميزات السكان
أيضاً تحافظ سينوب على موقعها باعتبارها إحدى الولايات التركية الأكثر هدوءاً ورومانسية وسعادة، بسبب طباع سكانها الذين يتجاوز عددهم 250 ألفاً، والذين ينقلون ميزات مزاجهم واستقبالهم الحسن إلى السياح وطلاب الجامعات الأجانب الذين يستمرون في التهافت على جامعتها الحكومية منذ توسيعها عام 2007، ما جعلها تنافس الجامعات العريقة في تركيا.
وترى كلبهار قره دومان قارصلي، وهي من سكان المدينة، أن "الحياة في سينوب سهلة، ولا تتطلب الكثير من العناء. وهذه الميزة تعتبر الأهم لها مقارنة بسائر المدن الكبيرة، كذلك إن سهولة التنقل والأمان وتوافر الخدمات تزيد سعادة أهل المدينة الجميلة بطبيعتها ومعالمها التاريخية والسياحية".