وزير ثقافة الدولة الإسلامية "هكذا أصبحت داعشيا"

22 أكتوبر 2015
أكتب خطابي متخفياً من الخليفة (Getty)
+ الخط -
لا تستغربوا أن يضم تنظيم دولتنا مثقفا كـ (أنا) ويتبوأ كرسي الثقافة، ومثلما استطاع فنيو تصوير قِصاصنا مجاراة حرفية القنوات فإن لنا أن نخاطبكم بلغة العقل والإبداع.


أكتب خطابي متخفيا من الخليفة لأحثكم على إخلاء شبر أرض يتسع لقرفصاء انشقاقي، مثلما أسس أميون بسطاء لانشقاق جند الأسد إذ لا يتحمل الجند أخطاء قادتهم ولست أظنكم تفعلون، ولأنكم تجرِّمون الناس بالشبهات كما تصموننا، فسأحاول جاهدا الاستشهاد بموتى لئلا تحاكموهم بتهمة الإرهاب، وذي سردية بيعتي، في سني الجامعة كنت شاعرا، قارئا للأساطير، أدخن وأصلي يستقبلني الشيوعيون ببرود: كيف تقرأ الأساطير ولا تلحد أو تسكر يا الوهابي.

وعندما ألتقي بالملتزمين: أنت تدخن وتكتب شعرا فإيمانك مشروخ. وبين الطائفتين كان الهامش الذي ضم طبقة عريضة من الشباب لدرجة شعوري أن المجتمع كله كذلك، ماعدا منتسبي الفئتين الصغيرتين اللتين اختطفتا المشهد في نزعة حرب الثنائيات الكسيحة.

وتوانى مثقفونا عن التأسيس لقراءة التراث بتوازنِ من يبحث عن حلٍّ فتلقفوا قوالب الأحزاب والأيديولوجيات المستوردة، وبعد سقوط الأخيرة تناثروا بين التبرير والاجترار، وتوهم آخرون حالة الوعي بالجذور. ولنتذكر ما طرحه "بورديو" وهيمنة أحادية التفكير، أن "الاستيعاء وحده لا يكفي للتحرر منه أو قهره بسلاح الوعي والإرادة لأن شروط فاعليته متأصلة في الخبايا الحميمة للأجساد على شكل استعدادات وأنماط من التفكير"، فكم كان منكم خلفاء وأباطرة.

كبرنا كجيل لندرك مجتمعا لم تصغ نخبُهُ وعيها لتصوغ وعيا جمعيا يستولد مبادئ وآليات، لذا توسعت ثقافة (الهامش) لتضم المجتمع بأسره بفعل أنظمته ونخبه الفاشلة في برامجها وبُعدها البراغماتي الدعائي مذ تراكضت للتظاهرJe suis Charlie Hebdo التي نشرت عن الطفل الغريق ولم ترَ فيه إلا دينه ولم تقُم بمظاهرة "أيها الحمقى، الطفولة أعلى من الأديان" نحن أمام نخب انبطاحية متملقة سمّاها كاتب منكم "الاعتذاريون العرب"، فأن يقف غونتر غراس ضد رسوم مسيئة بينما تسكتون مأخوذين بقوة دولية تخيلتم عصاها فوق رؤوسكم فتسابقتم إلى التملق، فما الفرق بينكم وبين أعضاء مجلس الشعب الموافقين على تغيير الدستور لتنصيب الأسد مثلاً، رفضتم غيبياتنا وآمنتم بغيبية هذي القوى.

إن علمانية متزنة لا تضمر قطيعة مع التراث بل تتلمس طرقا لبناء ثقافة تحول اجتماعي وليس القطع والمسخ تهشمت لصالح علمانية مفرطة في نكائيتها وانخراطها في غول العولمة، مما جعل شعوبنا متناهَبة بين أصوليتين، دينية لا تخفي تشددها وعلمانية متجذرة في إقصائيتها وتراوغ وتستـأثر بوسائل الإعلام والميديا، وبين الهاويتين أصبحنا في موقع الطفل المتحير، بين أم كسيحة فائضة حنينا وأب متقافز بين سقطات الأفكار المعلبة، ولا شك سنختار حضن الأم الآمن مذ اتخذ الإسلام إثر ثقل التغريب بعداً هوياتياً وقد ضَمن تنظيم داعش إثر الحروب أفقا له مدفوعا بفظاظة النخب وتشتتها فلم يبق مساحة للانضواء تحت خيمتها في هذا النفور القهري سوى داعش، مثلما خُذِل الثائر الوطني من الدعم إذ أحرق مراكبه مع النظام فلم يجد سواها.

ابن داعش أنا أو ساكن ضفّتها، ولو تهيأت ظروف لانشقاقي فلن تكون خطوتي إلى ضفتكم بل إلى ساحة وسط لأرمم المتن الذي حولتموه هامشا لنوبات التمدد بينكما وتبادلتم أدوار التضييق علينا بهوس "من ليس مع فهو ضد".

يقول إميل سيوران "إذا كنت أستطيع أن أقاوم نوبة انهيار عصبي فباسم أي حيوية أجدُّ في مقاومة هوس يسبقني؟ إني لا أختار الطريق التي تروق إلا عند عافيتي، وإذا أصبت فلست من يقرر بل إصابتي، وخيار أن نسأل إن كنا أحرارا أم لا فهو تفاهة أمام عقل تجرجره حريرات هذياناته وادعاء الحرية حينها يساوي التظاهر بعافية مخزية، وما الحرية إلا سفسطة أصحاء".

فهل استطاع أحد من موتى ضفتكم أن يمد يدا خارج قبر الهوس؟ إن ذلك يشي بمجتمع مهزوم ومأزوم في ثقافته وعقله المصاب بالحمى فأخذ يعطي لهذياناته صفة القدسية مبتعدا عن الموضوعية ومتمترسا خلف أناه المنتفخة مستحضرا كل ما يسندها من مقولات رافضا التنازل نحو مساحة وسط للحوار وتدفق الأفكار.

ويقول دوبريه: "تنقصنا المنهجية المتوازنة التي تعرف كيف تصالح بين المتضادات. فنحن لا نريد عقلانية مسطَّحة تستبعد الدين كليا بحجة أنه ظلاميات، ولا نريد أصولية متعصبة تكفِّر الآخرين".

لقد تغنّى الكثيرون بالعولمة وزوال الحدود منغمرا باستشرائها، وتلقفها المثقفون بالتأييد والتطبيل، وربما فاقت الدراسات المسوقة لها تلك التي واكبت اكتشاف غاليليو دوران الأرض وكدت أجد نفسي أميل إليها لولا أني مهجوس بقراءة الضد فاتكأت على صمتكم أمام إسقاط الإخوان في مصر إذ يمثل إجهاضا لتجربة إسلام سياسي خضع لصندوق الاقتراع في تنصيبه، مما يعني حثه على إيجاد آليات وبرامج ورؤى لكسب الشارع - الحَكَم، وبداية تقييم المجتمع الناخب للقوى المرشحة وفقا لمناهجها لا مرجعياتها في مجتمع تتنافس قواه مدنيا، لكن اغتصاب السلطة يدفع الشعب - الحَكَم إلى الاستلاب أو إعادة الاعتبار لحكمه بالقوة ثم وصمه بالإرهاب؛ الشعب هم نحن أو أبناؤنا.

إن تحييد شعوب بأكملها يجعلها تبحث عن آليات قد لا تمتلك من الوعي كما دول ومؤسسات بحثية، ومن الطبيعي لجوء المقهور ليوتوبيا وغيبيات تدعم صموده فيلجأ لدين محمل بعبر في الصبر والتحمل، ما أبلغكم في صناعة الأعداء! فأيّنا داعش.

الانتماء النسبي لمطلق أهون بكثير من الانتماء المطلق لمتغيِّر رجراج من مجتمعات حداثية فشلَ مثقفونا في تبيئتها ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، والناس تأتي إلينا لأنها تشنجت من وصم الإسلام بأخطائنا كتنظيم.

فرق صغير بيننا: إننا نملك نصا يضبطنا نخطئ ونصيب في اتباعه، وأنتم تتلقفون كل يوم فكرة قد تكون نزوة أو أهواء عابرة تحت مسمى حداثة متغيرة بلا أي مرجعية ولا حدود. إنه دينكم - العولمة التي رفضها ريجيس دوبريه ودافع عما اعتبره فضائل التنوع والاختلاف الثقافي والإنساني "من لا حدود له لا مستقبل له" والفكر الإنساني يتلاقح في الأثير ويحترم الحدود، وتحطمها "عولمة تستدعي إقامة الجدران المكهربة ويزعجها كل استثناء ثقافي. للحدود سمعة سيئة، يكره القناص الأسوار أما الطريدة فتحبها. 

الداعشية ليست تنظيما أو عملا عسكريا إنها عقلية توزّعناها بيننا بالتساوي ربما المعضلة أن نخبنا العلمانية المفرطة في نكائيتها لم تحصِّن نفسها من العولمة ولم تضع بينها حدودا ليميزها المعتنقون الجدد.

ورضوخا لشروط النشر لم أستشهد بآية "وتعاونوا على البر والتقوى" واستحضرت: "يكفي للشر كي ينتصر أن يقف الجيدون بلا عمل" فهل من سبيل؟!

(سورية)

المساهمون