توصّلت دراسة حديثة نُشرت نتائجها أخيراً في مجلة "بيرج" التابعة للجمعية البريطانية للبحوث التربوية "بيرا" إلى أنّ القوالب النمطية للتفرقة الجنسانية تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة وتترك تداعيات على مستوى تحديد المهن لاحقاً في المجتمع. وفي تقرير أعدّته مجلة "ذي كونفرسايشن" الأسترالية والنيوزيلندية، مستندة إلى هذه الدراسة، يُشار إلى التقسيم النمطي للألعاب بين اللون الزهري واللون الأزرق على أرفف المتاجر حول العالم، وفرزها ما بين ألعاب تخصّ الفتيان تتعلّق مثلاً بأنشطة عسكرية أو أخرى علميّة وبين ألعاب ذات ألوان زاهية تتعلق بالتنظيف إلى جانب عربات أطفال ودمى ومطابخ وأدوات زينة ومجوهرات وحرف يدوية. وهذا الفرز يدفع التلاميذ تلقائياً نحو تقسيم ممنهج لاختيار الوظائف في المستقبل.
وتظهر الدراسة التي استطلعت آراء نحو 332 تلميذاً (176 فتاة و 156 فتى) من 14 مدرسة أسترالية، أنّ القوالب النمطية الجنسانية المرتبطة بمجموعة متنوّعة من المصادر قد أثّرت بالفعل على الأطفال، الأمر الذي دفعهم إلى التطلع إلى المهن "التقليدية" الخاصة بالذكور والإناث. كذلك، انعكست القوالب النمطية على تحديد نوعية المهن الخاصة بالفتيات، إذ أبدت كثيرات تعلّقهنّ بمهن تقليدية، أكثر من رغبتهنّ في الانخراط في مهن علمية مثل العلوم والتكنولوجيا أو الهندسة والرياضيات. وتلك القوالب النمطية تترك تأثيرات مستقبلية على سوق العمل، بحسب إحصاءات أخيرة تبيّن أنّ نسبة النساء المنخرطات في الأعمال الهندسية والعلمية حول العالم لا تتخطّى 28 في المائة من مجموع القوّة العاملة، وهذا يعني أنّ عدداً أقلّ من النساء يعمل في مجال العلوم.
وتفيد الدراسة نفسها بأنّ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين سبعة أعوام وثمانية قد اتّخذوا قراراتهم بالفعل بشأن الوظائف التي يريدونها في المستقبل. فالفتيات يتطلّعنَ بأغلبية ساحقة إلى الوظائف "الأنثوية" التقليدية، فيما ينجذب الفتيان إلى الأنشطة "الذكورية". على سبيل المثال، تشمل الاختيارات الثلاثة الأولى للفتيان في ما خصّ الوظائف المستقبلية تلك الخاصة بالرياضات الاحترافية والوظائف المتعلقة بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة بالإضافة إلى ما يتعلّق بالشرطة والدفاع. في المقابل، ترغب الفتيات في أن يصبحنَ مدرّسات أو يعملنَ مع الحيوانات أو يمارسنَ مهنة في الفنون.
كذلك أظهرت إجابات كثيرة خاصة بالفتيات مدى تعلّقهنّ بممارسة مهن مرتبطة بمساعدة الآخرين أو "مهن عاطفية"، إذ عبّرنَ عن رغباتهنّ في العمل في قطاع التمريض لمساعدة المرضى أو العمل في البيت وإنجاب الأطفال. أمّا تفكير الفتيان في اختياراتهم المهنية فتأثّر بشكل كبير بمواضيع "ذكورية"، من قبيل كسب المال والتمتّع بسلطة على الآخرين. على سبيل المثال، أراد الفتيان العمل في سلك الشرطة لفرض نفوذهم على عامة الناس من خلال اعتقالهم وسجنهم، أو لاختبار إطلاق النار. كذلك، اختار قسم آخر من هؤلاء مهناً تتعلّق بالبنية الجسدية والقوة البدنية، لأنّها تعطي صورة واضحة عن "ماهيّة الرجل" في المستقبل.
من جهة ثانية، تبيّن الدراسة نفسها اختلافات في الرأي بين الفتيان والفتيات حول مهن المستقبل نتيجة تأثير الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها. فقد تطلّع الفتيان الذين يتابعون تعليمهم في مدارس أغنياء إلى وظائف في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات بنسبة 30 في المائة، في حين بلغت نسبة أقرانهم في مدارس فقراء ثمانية في المائة. أمّا الفتيات في مدارس فقراء فكانت لديهنّ رغبة أكبر في المساعدة والرعاية. ومن الممكن أن تكون هذه القيم أكثر أهمية للتلميذات اللواتي يتربَّينَ في كنف عائلات ذات معتقدات جنسانية مرتبطة بالعمل والأسرة بطريقة أكثر تقليدية. وإذا دخلت هؤلاء الفتيات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة، فقد يتخصّصن في العلوم الطبية وعلوم الحياة بدلاً من مجالات يعدّها المجتمع ذكورية مثل الفيزياء والهندسة.
وتساعد هذه النتائج في شرح كيفية استمرار ظهور الاتجاهات المرتبطة بجنس الإنسان في أماكن العمل ولماذا من المرجّح أن يُوظَّف الرجال من المجتمعات الأكثر حظوة من الناحيتَين الاجتماعية والاقتصادية في وظائف العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
وفي سياق متصل، تشير مجلة "ذي كونفرسايشن" إلى أنّ ثمّة متاجر وشركات مصنعة للألعاب تتعرّض إلى ضغوط قانونية وشعبية لإجراء تعديلات في عملية التصنيف بين ألعاب الفتيان وألعاب الفتيات. على سبيل المثال، صدر قانون في ولاية كاليفورنيا الأميركية أخيراً ينصّ على تخصيص قسم "محايد جنسانياً" لعرض منتجات الأطفال في متاجر الألعاب. وعلى الرغم من أنّ القانون لم يصل إلى حدّ حظر الأقسام المخصّصة حصراً للفتيان أو للفتيات، فإنّه يجعل ولاية كاليفورنيا الولاية الأميركية الأولى التي تعمل ضدّ تعزيز القوالب النمطية الضارة بين الجنسَين.
لا شكّ في أنّ هذا القانون مهمّ، إلا أنّ دور العائلة في إزالة الأفكار النمطية قد يكون له تأثير كبير على مهن المستقبل، خصوصاً أنّ دراسات سابقة وجدت أنّ الألعاب "المحايدة جنسانياً"، ومنها لعبة "ليغو" الشهيرة، كانت مفضّلة لدى الفتيان والسبب يعود إلى الأهل. فنسبة 76 في المائة من هؤلاء يشجّعون أبناءهم على اللعب بها، في مقابل 24 في المائة فقط يشجّعون بناتهم على ذلك، وهو أمر يحتاج إلى إعادة نظر. يُذكر أنّ شركة "ليغو غروب" الدنماركية أعلنت قبل أيام أنّ منتجاتها وتسويقها في المستقبل سوف يكونان خاليَين من أيّ تمميز جنساني وقوالب نمطية ضارّة.