نكبة سوسيا... الاحتلال يمعن في محو قرية فلسطينية

الخليل

فاطمة مشعلة

فاطمة مشعلة
25 مارس 2021
وقفة احتجاجية
+ الخط -

على بعد 500 متر، لا أكثر، من قريتهم التي هُجّروا منها عام 1985، يعيش أهالي سوسيا، في الضفة الغربية المحتلة، آلام النكبة التي حلّت بهم، فيما يشاهدون المستوطنين يمحون تاريخهم الفلسطيني منها

لا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بأن يعيش سكان قرية سوسيا، إحدى قرى مسافر يطا، جنوبي الخليل، جنوبي الضفة الغربية، نكبةً واحدة، بعدما اقتلع 600 من سكانها، من قريتهم الأصلية، سوسيا الأثرية، صيف عام 1985، وهجرّهم إلى أرضٍ قريبة، أقاموا عليها القرية التي منحوها الاسم نفسه، سوسيا الجديدة، بل يواصل الاعتداء عليهم والتضييق الذي يمارسه مستوطنوه. قد تكون أوجع النكبات تلك التي تجعل صاحب الأرض قريباً من أرضه، مع حرمانه من الدخول إليها، وسكان سوسيا بذلك لا يتجرّعون ألم الترحيل فقط، إنّما يُذيقهم الاحتلال ومستوطنوه يومياً علقم ما يفعلونه بمنازلهم وديارهم التي نشأوا فيها، إذ يفصل بين "السوسيتين" أو القريتين 500 متر، والحرية الوحيدة التي يمنحها لهم الاحتلال أن يروا ما يُفعَل بمنازلهم من بعيد.

مزار استيطاني
يسترجع محمد النواجعة (75 عاماً) الذي عاش الترحيل بعضاً من ذكريات التهجير حين كان في بداية الأربعين من عمره. يقول: "اقتحم جنود الاحتلال القرية، بعد الظهر، في أحد أيام صيف 1985، وبدأوا في محاصرة السكان، وتهديدهم بالسلاح، وقد حاولتُ تخليص زوجتي وأطفالي الثمانية، وحاولتُ كذلك أخذ بعض المواشي، ثم قصدنا أراضينا الزراعية القريبة. أذكر أنّنا في تلك الليلة التي قضيناها في خيمة على أرضنا الزراعية كحال باقي السكان، عشنا الخوف والبرد. وحتى اليوم، ما زلنا نُعاني في سوسيا الجديدة". لم يرَ النواجعة منزله في سوسيا القديمة طوال 26 عاماً، وعاد إليها بصفة "سائح" عام 2011، إذ حوّل الاحتلال ومستوطنوه جزءاً من قرية سوسيا "الأصلية" إلى مزار سياحي. يوضح النواجعة: "قطعت تذكرة لزيارة منزلي، وعندما وصلت، رأيته قد تحوّل إلى قاعة لعرض الأفلام". يتابع: "يعرضون فيلماً في منزلي عن سوسيا... فيلم مُزيّف، كذب في كذب".

سوسيا الجديدة معرضة دائماً للهدم (العربي الجديد)
سوسيا الجديدة معرضة دائماً للهدم (العربي الجديد)

عاش رئيس المجلس القروي لسوسيا، جهاد النواجعة، وهو ابن محمد النواجعة، تجربة الترحيل مع والده، حين كان في الثامنة عشرة. يقول لـ"العربي الجديد": "عائلة النواجعة هي العائلة الوحيدة من أصل خمس عائلات نزح أبناؤها إلى سوسيا الجديدة، فيما قصد باقي الأهالي أماكن متفرقة من الضفة الغربية. وسكنت بعدها في سوسيا الجديدة عائلات من يطا مثل: أبو صبحة، ومغنم، والهريني، والشناران، وأبو ملش". يؤكد النواجعة أنّ الاحتلال عرّض السكان لضغوط هائلة قبل الترحيل، إذ أغلق أبواب المنازل والكهوف التي كانوا يسكنونها بالأسلاك الشائكة من أجل دفعهم للرحيل طواعية، وهذا ما لم يحصل على مدار شهرين، حتى هُجرّوا بقوة السلاح. وبعد أشهر قليلة جلب الاحتلال المستوطنين للعيش فيها، والآن تستوطن قرية سوسيا الأصلية ومساحتها قرابة 800 دونم ثلاث عائلات من المستوطنين.
تضم سوسيا الأثرية "القديمة" آثاراً من عصور إسلامية عدة، ويدّعي الاحتلال وجود كنيسٍ يهوديٍ تاريخي فيها، لكنّ أهالي القرية يؤكدون أنّ ما في داخل الموقع محراب وآثار مسجد، وقد نصّب الاحتلال فريقاً "سياحياً" من مستوطنة سوسيا القريبة والمقامة على أراضيها، لإدارة القرية الأثرية، وما يُجنى من رسوم يذهب لصالح المستوطنة، بحسب رئيس المجلس القروي للمسافر، نضال يونس. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ الاحتلال أقام مستوطنة سوسيا عام 1983، ثم استولى على القرية الأصلية، وبذلك سلب من سوسيا اسمها وأرضها، ويحاول محو كلّ أثرٍ لفلسطينيتها.

بدوره، يقول جهاد النواجعة: "كنت أنا وأصدقاء الطفولة، وقد فرّقنا الترحيل، نصطاد طيور الحمام من الآبار المهجورة في القرية، ونستمتع بشوائها وتناولها ليلاً، أما الآن فقد أصبحت حتى أدواتنا الزراعية من المِحراث، والدكران، والمذراية، والغربال، في معرض بالقرية القديمة، جاء رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بينامين نتنياهو إلى افتتاحه مؤخراً".

اعتداءات ومزاد انتخابي
يُراهن نتنياهو في كلّ معركة انتخابية على اليمين المُتطرف، الذي يشكل فيه مستوطنو الخليل رأس الحربة، لذلك، دخل لأول مرة قرية سوسيا الأثرية في الرابع عشر من مارس/ آذار الجاري، ولثاني مرة في سجل رؤساء حكومات الاحتلال، على وقع غضب الفلسطينيين الذين تظاهروا على مقربة من القرية رفضاً لذلك، وسبق نتنياهو إلى هذا الاقتحام رابعة رؤساء حكومات الاحتلال، غولدا مائير، التي اقتحمت المنطقة قبل نحو 50 عاماً، أي قبل تهجير سكان سوسيا منها.
تعرّض سكان سوسيا القديمة منذ عام 1993 لسلسلة هجمات ترحيل من سوسيا الجديدة، بلغت ذروتها عام 2001 حين دمّر الاحتلال سوسيا الجديدة بالكامل، كما حرم سكانها من 16 بئر ماء للزراعة والرعي من أصل 28 بئراً، ليعيد السكان بناء قريتهم الجديدة على مساحة 1500 دونم، بواقع 120 منزلاً ومُنشأة أغلبها للزراعة أو حظائر للمواشي. ولم يترك الاحتلال والمستوطنون سكان سوسيا وشأنهم، ولم يتوقف نهم التهجير لدى الاحتلال، إذ رفعت مؤسسة "ريكافيم" الاستيطانية المتطرفة في عام 2012 دعوى في القضاء الإسرائيلي لهدم قرية سوسيا الجديدة، بما فيها المنازل والمدرسة والعيادة الوحيدة، واستمرت عمليات الهدم الجزئية حتى عام 2014، لكنّ حملةً دوليةً حينها وُصفت بـ"القوية والفاعلة واللافتة" بدأها سكان سوسيا أجبرت حكومة الاحتلال على تأجيل أوامر الهدم، بحسب الناشط نصر النواجعة. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ سوسيا صامدة إلى اليوم وستبقى ثابتة، وهي جزءٌ مهمٌ من مسافر يطا، خصوصاً أنّ الاحتلال يعتبر السيطرة على سوسيا نقطة تحول استراتيجي، لأنّ ذلك يعني منع التمدد العمراني الذي يخشاه لسكان المنطقة الجنوبية الشرقية لمدينة يطا باتجاه سوسيا، عبر قرية سوسيا الأثرية ومستوطنة سوسيا ومعسكري جيش الاحتلال والبؤرتين الاستيطانيتين "حفات يائير"، و"متسافي يائير"، وجميعها تشكل حلقة دائرية حول سوسيا الجديدة من جميع الاتجاهات.

أطفال في مدرسة سوسيا الجديدة (العربي الجديد)
أطفال في مدرسة سوسيا الجديدة (العربي الجديد)

وفي قرية سوسيا الجديدة البالغ عدد سكانها حوالي 350 نسمة يُشكل الأطفال منهم 120، والنساء 150، لا ينجو أحد من متاعب الاعتداءات المستمرة للمستوطنين، ولا من شظف العيش الذي تزيده إجراءات الاحتلال. تتذكر المواطنة ربيحة جابر، في حديث إلى "العربي الجديد"، لحظات عاشتها طفلة يوم هجّروا إلى خيام سوسيا الجديدة، وكان عمرها 12 عاماً. تتذكر الخيمة التي باتت وعائلتها فيها ليلة التهجير وبعدها، إلى أن بنوا غرف الطوب مع سقف "الزينكو" أو الصفيح في سوسيا الجديدة. تقول جابر: "لديّ ابنان وخمس بنات، ونعيش في غرفتين، اعتدى المستوطنون عليّ وعلى زوجي وأطفالي قبل ست سنوات، بالهراوات". تتمنى ربيحة، كباقي الأُمهات والزوجات، أن تكون لها غرفة منفصلة عن أولادها، وأن يكون لأولادها أسِرَّة ينامون عليها. تأمل أن تتمكن مع نساء قرية سوسيا، بعد انتهاء جائحة كورونا، من الذهاب في رحلات قصيرة خارج المسافر، كما من قبل: "منذ أكثر من عام، لم نخرج في نزهة، وأكتفي بالأعمال المنزلية كي أُخفف عن نفسي"، تقول ربيحة.

مسافر يطا
تضم مسافر يطا، وهي البوابة الجغرافية نحو النقب جنوبي فلسطين المحتلة، 21 تجمعاً فلاحياً، كما تضم تجمعاً بدوياً فيه 14 قرية وخربة غير معترف بها، والأخيرة تتعرض على الدوام لتنكيل الاحتلال ومستوطنيه، ومحاولات الترحيل المُستمرة، عدا عن الحرمان من إمدادات الماء والكهرباء والإنترنت، ومنع البناء أو الترميم وتعبيد الطرقات، وتأمين العملية التعليمية للأطفال. وتخنق مسافر يطا تسعُ مستوطنات، والشارع رقم "60" الاستيطاني، ومن الخطير اللافت أنّ مستوطني الاحتلال بدأوا مؤخراً في منهجة اعتداءاتهم على سكان مسافر يطا، التي تحاول حكومة الاحتلال بطلب من وزارة حربها نزعها كُلياً من سكانها الذين يعيشون على مساحة 35 ألف دونم فقط، من المساحة الأصلية البالغة 95 ألف دونم، بتحويلها إلى منطقة للتدريب العسكري لجيش الاحتلال.

يقول رئيس المجلس قروي للمسافر، نضال يونس لـ"العربي الجديد: "المستوطنون باتوا ينظمون اعتداءاتهم على السكان، الأمر الذي يُذكر بالنهج نفسه لعصابات الاحتلال خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، إذ شكلوا عصابات لكلّ مستوطنة، فيتحركون مع بعضهم البعض ويهاجمون السكان بالطريقة نفسها". وتعدى دور المستوطنين الاستيطان أو سلب الأرض، وحتى الاكتفاء بالاعتداء ومضايقة سكان الأرض فحسب، إلى مُزاحمة جنود الاحتلال في أداء مُهمة الاعتقال، فعلى سبيل المثال لا الحصر، اعتقلت مجموعة من المستوطنين خمسة أطفال في العاشر من مارس/ آذار الجاري، كما اعتدى مستوطنون ملثمون بعدها بأيام على عائلة المواطن سعيد عليان، وأصابوه بكسور دفعت ببقائه في المستشفى حتى اليوم، فيما تعرّضت زوجته وأطفاله لإصابات وذلك أثناء خروجهم في نزهة. يؤكد يونس هذه الوقائع مستشعراً المزيد من الخطر على سكان مسافر يطا في الأيام والأشهر المقبلة.

الصورة
مسن فلسطيني يواجه جنود الاحتلال- فرانس برس
تهديدات الاحتلال ومستوطنيه مستمرة (جعفر اشتيه/ فرانس برس)

ذات صلة

الصورة

سياسة

اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي، فجر اليوم الاثنين، بلدة عزون شرقي قلقيلية في الضفة الغربية المحتلة، وسط انتشار عسكري كثيف
الصورة
قناة السويس من جهة الإسماعيلية، 10 يناير 2024 (سيد حسن/Getty)

سياسة

دعت جهات مصرية إلى منع مرور السفن الحربية الإسرائيلية في قناة السويس بعد توثيق مشاهد عبور سفينة حربية إسرائيلية فيها أخيراً، وسط غضب شعبي مصري.
الصورة
دبابة إسرائيلية على حدود لبنان من جهة الناقورة، 13 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

اشتدت حدة المواجهات البرية بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان مع دخول المعارك شهرها الأول من دون أن تتمكن إسرائيل من إحكام السيطرة.
الصورة
قصف إسرائيلي في محيط قلعة بعلبك الأثرية، 21 أكتوبر 2024 (نضال صلح/فرانس برس)

سياسة

انضمّت مدينة بعلبك إلى الأهداف الإسرائيلية الجديدة في العدوان الموسَّع على لبنان تنفيذاً لسياسة الأرض المحروقة ومخطّط التدمير والتهجير الممنهج.
المساهمون