ندوب الحرب... صور أوكرانيا تحيي آلاماً عربية

02 مارس 2022
خوف على الحاضر والمستقبل (أريس ميسينيس/ فرانس برس)
+ الخط -

تعيد وجوه الأوكرانيين الفارين من القصف الروسي لمدنهم والحقائب التي يحملونها معهم بقلق وتعب، واللحظات الصعبة لفراقهم عن أحبتهم، إلى أذهان كُثر في المنطقة العربية صور الحروب التي عاشوها خلال مراحل مختلفة من حياتهم، وعرفوا فيها الهروب تحت القصف ووسط دخان ونيران الحرائق ورائحة البارود، والانتظار في الطوابير لتأمين رغيف الخبز، والخوف والتشرّد.
عاش المحامي محمد كراز (27 عاماً) الحروب الإسرائيلية على غزة منذ عام 2008، وتفتحت عيناه منذ أن كان فتى صغيراً على فكرة الموت خلال الحرب الأولى على القطاع عام 2008. يقول لـ"العربي الجديد: "لا يمكن أن أحصي الآثار النفسية للحروب التي انعكست سلباً على حياتي الشخصية، وأهمها الخوف من عدم الاستقرار والمستقبل المجهول. وحين علمت خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة العام الماضي أن برج الجلاء حيث مقر عملي سيقصف تهاوت كل أحلامي، واندفعت مع زملائي مثل المجانين إلى البرج لإنقاذ ملفات وأوراق قضايا مرتبطة بحقوق أشخاص وعائلات".
ويعلّق على مشاهد المباني المهدّمة والشوارع المتضرّرة في الحرب الروسية على أوكرانيا والآلام التي اختبرها شعبها بأنه يصعب أن يفسر مشاعر هذه اللحظات المريرة. ويقول: "لا أستطيع شرح كيف يشعر المرء في مواجهة هذه الأوضاع المأساوية التي لا أتمنى أن يعيشها أحد على هذا الكوكب، وأن أعرف معنى الحرب تماماً، لذا أتابع تفاصيلها بدقة، وأتعاطف كثيراً مع الضحايا في أوكرانيا الذين أتمنى أن تنتهي معاناتهم". 
يضيف: "يختلف شعور من عايش الحرب عن الشخص الذي لم يختبرها، علماً أن التعاطف والتضامن أمران ضروريان في مواجهة الحروب، ويساهمان في دعم الأشخاص على المواجهة والصمود. وعندما يدرك الفرد في الحرب أن أشخاصاً يتعاطفون معه يشعر بدعم ومساندة". 

التحوّل السلبي
ويخبر الموسيقي ومهندس الصوت اليمني معتز مصلح الموقع الإلكتروني للمنظمة الدولية للصليب الأحمر، كيف أصيب باكتئاب بسبب الحرب في بلاده. ويقول: "تغيّرت حياتنا كشباب نملك طاقات وطموحات كبيرة، وتحوّلت شخصياً من الإيجابية والمرح وحب الحياة والعمل، إلى المكوث داخل البيت بلا امتلاك أي مهارة أو عمل، ولا أنتج شيئاً، ولا أفيد المجتمع بشيء. ثم بدأت أشعر بملل من قضاء معظم الوقت نائماً في البيت، وتملكني شعور الاكتئاب كون لا هدف لدي، وتساءلت إلى متى ستستمر الحرب. وعندما نزحت من البيت، لم أستطع أخذ آلة القيثارة معي، وهي الوحيدة التي كنت استخدمها للترويح عن نفسي. أيضاً تغيّر جميع الأشخاص حولي، وتبدّلت حالاتهم النفسية. امتلكوا وجوهاً عابسة، وافتقدوا القدرة على الإصغاء إلى الآخرين". 
وخلال تلك الفترة الزمنية القاسية أصيب مصلح بحمى الضنك، وفقد القدرة أو الرغبة في المقاومة، وكان يسأل نفسه لماذا يريد أن يقاوم بعدما خسر هدفه في الحياة، ثم احتاج إلى وقت طويل للتعافي من الاكتئاب. 

الصورة
الهرب والخوف على الأقارب (دومينيكا زارزيسكا/ Getty)
الهرب والخوف على الأقارب (دومينيكا زارزيسكا/ Getty)

اضطرابات الحروب ليست ضعفاً أو عيباً
تشير دراسة أجرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أنّ الاضطرابات النفسية الناجمة عن الحروب تنتشر في شكل أكبر من المتعارف عليه. وتوضح أن شخصاً من أصل 15 يعانون في الظروف العادية من أعراض نفسية، أما في ظروف الحروب والنزاعات فتزيد هذه النسبة إلى شخص واحد من أصل خمسة. وتتحدث أيضاً عن أن عائلات المفقودين تظهر خلال الحرب قلقاً كبيراً في شأن أحبائها، وأن المحتجزين يتعرضون خلالها إلى تعذيب وسوء معاملة، ويعاني من لديهم إعاقات جسدية من اضطرابات نفسية مختلفة. 
إلى ذلك، تؤكّد الدراسة أن الأطفال يتأثرون بالحروب في شكل خطير، مشيرة إلى أن الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة هي الأكثر شيوعاً لدى الأطفال في الحروب. و"على سبيل المثال، تراوحت نسب الإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة عند الأطفال الذين تأثروا بالحروب الإسرائيلية على فلسطين بين 18 الى 69 في المائة، في حين تعاني نسبة 60 في المائة من الأطفال الذين عايشوا الحرب السورية اضطراباً نفسياً واحداً على الأقل". 
وتشدد المنظمة على أن "إهمال الآثار النفسية للحروب وضحاياها له أثر عميق وطويل المدى على الأشخاص وعائلاتهم والعالم عموماً، وأن مرحلة ما بعد انتهاء الحرب قد تجلب أحمالاً أثقل من الأسلحة على الناس تترك آثاراً خفية ومؤلمة في نفوسهم، علماً أن الآثار النفسية التي يعيشها الأشخاص خلال الحروب ليست ضعفاً أو عيباً، ومن المهم طلب مساعدة واستشارة نفسية في شأنها". 

الصورة
أمام مشهد الدمار (أريس ميسينيس/ فرانس برس)
أمام مشهد الدمار (أريس ميسينيس/ فرانس برس)

وقع ما بعد الصدمة
تشرح الاختصاصية في علم النفس العيادي بالجامعة الأميركية في بيروت الدكتورة بريجيت خوري، في حديثها لـ"العربي الجديد"، بأن "الآثار النفسية للحرب تتنوع بين مشاعر القلق ونوبات الهلع والتوتر والخوف على الحاضر والمستقبل. ويعاني البعض من اكتئاب أو يأس، ويتأثر الأشخاص الأكثر عرضة للقصف أو للعنف بشكل أكبر من الاشخاص البعيدين عن مناطق النزاع. ويعتبر الأطفال الفئة الأكثر هشاشة في مواجهة أزمات الحروب بسبب فقدانهم الشعور بالأمان وعدم امتلاكهم القدرات النفسية الضرورية لمواجهة الفترات الصعبة". 
وتلفت خوري أيضاً إلى أن "الأشخاص الذي عايشوا حروباً مماثلة ويتابعون حالياً أخبار الحرب وصورها يستعيدون الذكريات والصور، ما يولّد لديهم شعوراً بعدم الأمان والقلق والتوتر وبالخوف، كأنهم يرون الصور ذاتها مجدداً في مخيلتهم وأذهانهم، والتي تجعلهم يسترجعون لحظات ومخاوف عايشوها واختبروها. ويندرج ذلك ضمن أعراض حالات اضطراب ما بعد الصدمة التي ترافق أشخاصاً عايشوا حروباً أو مآسٍ وكوارث أخرى فيتعاطفون مع المجتمعات التي تعيش حروباً". 
وتتابع: "ترتفع أيضاً حالات التوتر أو القلق لدى الأشخاص الذين لديهم أقارب أو أبناء في مناطق النزاع، مثل أهالي الطلاب الذين يتواجدون في أوكرانيا حالياً، أو الذين لديهم أصدقاء ومعارف أوكرانيين، فيزداد خوفهم وقلقهم على مصير هؤلاء الأشخاص وحياتهم. أما العوارض التي تظهر لدى أشخاص يتابعون أخبار الحرب فتشكّل ردود فعل غير مرضية، علماً أنه من البديهي في كل الأحوال أن يخاف الأشخاص ويشعروا بخطر في زمن الحرب التي ليست حالة طبيعية".

الصورة
التعاطف يجلب الدعم والمساندة (Getty)
التعاطف يجلب الدعم والمساندة (Getty)

جدل المناعة 
أيضاً، يوضح الطبيب والمحلل النفسي الدكتور شوقي عازوري لـ"العربي الجديد" أن "الأشخاص يعيشون عند بدء إنذارات الحرب قلقاً نفسياً داخلياً في انتظار اندلاعها، ثم باكتئاب حين تبدأ، وبضرورة النجاة وإنقاذ حياتهم، والهرب من الموت". 
ويرى أن "المجتمع اللبناني أصبح معتاداً على الحروب بعدما عايش حروباً عدة واختبر تجارب صراعات داخلية واجتياحات واحتلالات، لذا يمكن أن يظهر ردود فعل غير مبالية بما يجري في مناطق الصراعات، أو شعوراً بعدم الحساسية تجاه ما يحصل. ويمكن القول إن اللبنانيين لم يعودوا يخافون كما في السابق، وتكوّنت لديهم مناعة في مواجهة الآثار النفسية للحروب. وقد يعتبر البعض أن الشعور بالاعتياد أمر إيجابي، لكن المناعة والاعتياد يعطلان القدرة على المواجهة، ويولّدان مشاعر الخيبة واليأس والخضوع". 
لكنّ خوري تخالف عازوري في شأن حصول مناعة واعتياد على أزمات الحروب، وتعتبر أن هذا الكلام "غير دقيق وغير علمي، وتشويه للحالات التي يعيشها الأفراد، فلا أحد يظهر مناعة ضد الحرب أو العنف، أو يعتاد على الاضطرابات النفسية الناجمة عن الحروب. وحتى الجنود أنفسهم الذين يشاركون في القتال ليس لديهم مناعة ضد الآثار النفسية السلبية للحروب". 

وتنصح خوري الناس بعدم ملاحقة أخبار الحرب في كلّ الأوقات وبوتيرة كثيفة، وتجنب تصديق الإشاعات التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي ويتناقلها أشخاص بلا التدقيق في مصداقيتها. وتشدد على أهمية أن يواصل الأشخاص حياتهم الطبيعية وروتينهم اليومي والتواصل مع العائلة والأصدقاء، ما يخفّف من الآثار السلبية للأخبار التي يتلقونها، والأوضاع التي يعيشونها. 

المساهمون