نازحو غزة: المأساة تتكرر مع تجدد عدوان الاحتلال

14 أكتوبر 2023
نزح آلاف الفلسطينيين إلى المدارس (محمد الحجار)
+ الخط -

في أول أيام العدوان الإسرائيلي، السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول، نزحت عائلة عثمان أبو حمد من حي السلاطين في شمال مدينة غزة، إلى بلدة جباليا في المنطقة الشرقية، حيث يعيش شقيقه. وفي اليوم التالي، قصف الاحتلال المنزل المجاور للمنزل الذي نزحوا إليه، ما دفع جميع السكان إلى ترك منازلهم، والانتقال إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في مدينة غزة.
قبل يومين، ألقت طائرات الاحتلال منشورات على الغزيين، تطلب منهم مغادرة مدينة غزة بالكامل. يمسك أبو حمد (50 سنة) المنشور ويقول: "بدهم كمان مرة يهجرونا؟ عشت نكبة نزوح في سنة 2009، وأخرى في 2014، وثالثة في 2021، وهذه ستكون المرة الرابعة". يجلس أبو حمد بالقرب من بوابة المدرسة، ينظر إلى السماء ويقول: "خذنا يا رب. الكل خذلنا، ولا نريد من العرب ولا العالم أي شيء".
قبل العدوان، خسر عثمان أبو حمد عمله في النجارة الذي كان يعيل من خلاله عائلته بسبب ندرة المواد الخام وقلة الإقبال على المنجرة القائمة في بلدة بيت لاهيا، فأجّر قبل شهرين المكان لأحد المتخصصين في بيع أدوات البناء، لكنه علم حديثاً أن المكان تدمر بالكامل، وبذلك فقد كل مصادر رزقه، بينما لديه ستة أطفال من بينهم ابن من ذوي الإعاقة الحركية.
يقول أبو حمد لـ"العربي الجديد": "نزحت في أول مرة لأن لديَ ابناً معوقاً، ولن نستطيع الانتقال سريعاً في حال اجتياح الاحتلال منطقتنا. دائماً يطاردني هذا الكابوس في أحلامي، أنني سأعجز عن نقل ابني جلال البالغ 27 سنة الذي يعيش على كرسي متحرك عند اندلاع الحرب، وأرتعب جداً من هذا الحلم، لذا قررت في أول أيام الحرب الانتقال إلى منزل شقيقي، ثم نزحت أنا وشقيقي إلى مدرسة أونروا في وسط مدينة غزة، لكن جميعنا حالياً تحت الخطر".
يعيش أبو حمد تفاصيل النزوح القاسية، بينما لا يملك أي مال، فقد غادر سريعاً تاركاً كل شيء من خلفه، وتم تأمين بعض الطعام للاجئين في المدرسة، لكن في بعض الأيام كان يضطر إلى تأمين الطعام لأبنائه، فضلاً عن احتياجات نجله المعوق. يقول: "نعيش حياة أسوأ من حياة اللاجئين، فنحن في حالة نزوح متكرر، ولا يتوافر لنا طعام جيد ولا ماء كافٍ، لا شيء هنا، والناس مزدحمون في المكان، وأشعر أنني لا أستطيع اتنفس في بعض الأوقات".

يواصل الاحتلال قصف أحياء غزة (محمد الحجار)
يواصل الاحتلال قصف أحياء غزة (محمد الحجار)

وطالب جيش الاحتلال سكان شمالي القطاع وسكان مدينة غزة بالتوجه إلى الجنوب، فيما يبدو استعداداً لعملية اجتياح بري، وتشير التقديرات إلى أن المناطق المهددة تضم نحو مليون و200 ألف نسمة، وفي حال حدث ذلك، ستكون أعداد النازحين أكبر من نازحي النكبة الفلسطينية في عام 1948، والتي قدرت بقرابة 950 ألف فلسطيني هجروا قسراً.
واعتبر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، أن نقل أكثر من مليون شخص إلى جنوب القطاع حيث لا يوجد غذاء أو ماء أو أماكن إيواء "أمر خطير للغاية، وقد لا يكون ممكناً". وقال المفوض العام لوكالة "أونروا"، فيليب لازاريني، إن دعوة قوات الاحتلال لنقل أكثر من مليون مدني يعيشون في شمال غزة خلال 24 ساعة "أمر مروع، ولن يؤدي إلا إلى مستويات غير مسبوقة من البؤس، ويدفع الناس في غزة بشكل أكبر إلى حافة الهاوية".
في شمال قطاع غزة، لم يبق شيء في حيّ الكرامة بوسط مدينة غزة، الذي كان يضم أبراج الكرامة التي كانت مفعمة بالحياة. كانت عائلة زهير الشريف (49 سنة) من بين آخر العائلات التي استطاعت النجاة بعد أن أنقذتهم طواقم الصليب الأحمر، بعدما علقوا بعد تدمير الأبراج ليوم كامل على سلم المصعد.

مدارس غزة باتت مزدحمة بالنازحين (محمد الحجار)
مدارس غزة باتت مزدحمة بالنازحين (محمد الحجار)

نجت عائلة الشريف من عدوان عام 2014، حين قصف منزلهم في بلدة جباليا، فنزحوا إلى "أرض الغول" في شمال غزة، ومع العدوان الجديد، نزحوا إلى منزل شقيقه في أبراج الكرامة، إذ كانوا يعتقدون أنها ستكون آمنة، لكن الاحتلال قصف الأبراج، والحي بالكامل، واستشهد وأصيب العشرات، من بينهم شاب استشهد بين يديه، وهو ينتظر وصول الإسعاف.
علمت عائلة الشريف من أحد الجيران أن منزلهم في "أرض الغول" تدمر بالكامل، وهو المنزل الذي لم يمر على اكتمال بنائه سوى عامين، لكنهم نجحوا في النزوح للمرة الثالثة باتجاه مخيم النصيرات في وسط القطاع، ليقيموا عند أحد أقاربهم، بعد أن انتظروا على بوابة مستشفى الشفاء لنحو يوم كامل، وصول حافلة صغيرة نقلتهم مع أفراد أسرة شقيقه وجيرانهم إلى المخيم، ورغم ذلك لا يشعرون بالأمان.
يقول الشريف لـ"العربي الجديد": "كثير من العائلات الغزية نزحت أكثر من مرة خلال تكرار العدوان، وبعض العائلات تكرر نزوحها لأربع مرات، إننا نشاهد ونعيش التفاصيل نفسها، وأخشى أن أضطر إلى النزوح إلى خارج الوطن، فنحن نسمع عن مخططات لتوطيننا في خارج غزة. حقوقنا الأساسية معدومة، والعالم بلا ضمير".

نزحت مجموعات من المواطنين من مخيم الشاطئ إلى حي الشيخ رضوان، ويقيم بعضهم في إحدى البنايات التي لم يكتمل بناؤها، وقد تعرضت المباني المجاورة للقصف، ما أصاب العديد منهم، فيما تقبع الغالبية في الشوارع، بانتظار نقلهم إلى مناطق في وسط القطاع.
من بين هؤلاء سعيد داوود (37 سنة)، وهو عامل بناء تضرر منزله، فأخبره صاحب إحدى البنايات التي كان يعمل فيها أن يتوجه مع أسرته وجيرانه للإقامة فيها. يقول داود لـ"العربي الجديد": "تكرر النزوح في حياتنا كثيراً، لكن حتى لو قضينا عمرنا كله في نزوح فلن نترك أرضنا، لسنا مثل المستوطنين الذين لو نزح أحدهم مرة واحدة يفكر في العودة إلى بلده الأصلي، وقد شاهدنا الجنود والمستوطنين الأسرى في يد المقاومة يحملون جنسيات عدة، بينما نحن متجذرون في أرضنا، ولن نذهب إلى أي مكان، فنحن فلسطينيون".
للمرة السادسة، ينزح أحمد الكردي (57 سنة). في عام 2014، قصف الاحتلال منزله خلال مجزرة حيّ الشجاعية، فنزح مرتين في داخل الحيّ، مرة عند منزل شقيقه، ثم إلى مدرسة لوكالة أونروا، وخلال عدوان عام 2021، كرر الأمر نفسه، فنزح إلى منطقة ميناء غزة، ثم إلى حيّ النصر، وفي العدوان الحالي يتكرر نزوحه مجدداً.
يقول الكردي إنه فقد شقيقه خلال مجزرة حيّ الشجاعية في 2014، وبعدها اعتاد نزوح أسرته حتى لا يفقد أحداً. يضيف لـ"العربي الجديد": "نعيش معاناة كبيرة، ولا نهرب لأننا جبناء، بل لأن لدي أبناءً أريد حمايتهم، وننزح لأننا نريد البقاء أحياء من أجل بناء مستقبل بلدنا. ليس لدينا ملاجئ نحتمي فيها، لكن لدينا إرادة، وبعضنا يحب الموت كما يحب الحياة".

المساهمون