اقترب آلاف الغزيين من المرحلة الأخيرة التي كانوا يخشون الوصول إليها، إذ باتوا على مقربة من بوابة معبر رفح البري مع مصر، حيث يتمركز كثير من النازحين الغزيين في المنطقة الخالية من السكان التي كانت تستخدم في السابق لتنظيم سباقات الدراجات النارية والجمال، وتقام فيها أسواق شعبية أسبوعية بالقرب من حي تل السلطان.
يعتبر كثير من الغزيين أن الوضع الراهن هو "طلقة النجاة الأخيرة" بعد أكثر من شهرين قضتهما آلاف العائلات في الشوارع، وكرروا خلالها النزوح عدة مرات جنوباً، حتى أصبحوا على بعد أمتار من السلك الشائك الفاصل بين قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء.
يعيش هؤلاء النازحون ظروفاً إنسانية قاسية، فعدد كبير منهم لا يملكون توفير الطعام أو مياه الشرب، وبعضهم غادر مراكز الإيواء في مدارس وكالة "أونروا" بسبب انعدام المساعدات الغذائية، ليعيشوا في ظروف مزرية بالقرب من الحدود المصرية.
لا تتوفر أماكن إيواء لمزيد من النازحين في مدينة رفح، خصوصاً للنازحين من مدينة خانيونس التي تشهد قصفاً إسرائيلياً متواصلاً، ما دفع كثيرين إلى البقاء على مقربة من الحدود المصرية، ربما تكون أكثر أمناً من غيرها من مناطق الجنوب.
فقد موسى أبو عيد (51 سنة) عدداً من أفراد عائلة زوجته داخل مدرسة الفاخورة التي قصفها الاحتلال الإسرائيلي بشكلٍ مباشر، كما لا يزال عدد آخر من أفراد عائلته في حي النصر وحي تل الهوا شمالي القطاع، ولا يعرف أية معلومات عنهم، ولا يعرف إن كانوا أحياء أم شهداء، ومنذ وصل إلى الحدود المصرية الفلسطينية، يراوده شعور بأنه لن يعود إلى منزله الذي لا يعرف إن كان دمر أو أصيب بأضرار فقط.
يقول أبو عيد لـ"العربي الجديد": "خلعت الخيمة التي نصبتها بالقرب من منطقة السطر الغربي في مدينة خانيونس، بعد أوامر من الاحتلال بإخلاء المنطقة بالكامل، واضطررت إلى المبيت يومين في الشارع مع 5 من أفراد عائلتي، ثم وصلنا إلى هنا رفقة الكثير من الناس، وقضيت يوماً كاملاً في نصب الخيمة مجدداً، وحالياً أنتظر دوري للحصول على بعض المعدات لتثبيت الخيمة في الأرض".
لا تتوفر أية أماكن إيواء في رفح للنازحين من خانيونس
يضيف: "تعرف هذه المنطقة باسم السوافي، والمكان شديد البرودة في المساء وفي الصباح الباكر، ونحاول عدم مغادرة الخيمة للوقاية من البرد. لا يتوفر لدينا الطعام ولا الماء، وجاء عناصر من (أونروا) قبل يومين، ووزعوا علينا بعض الطعام والمساعدات، وبعدها لم يصلنا شيء. بعض الناس يأتون إلى هنا ظناً منهم أنه يتم توزيع الطعام علينا، لكننا نشعر بالجوع والعطش مثل بقية الناس في كل مناطق غزة، ونبحث عن أي طعام بلا جدوى. نواجه الخوف والجوع، والخيمة لا تقينا من البرد".
غادر بعض النازحين من مدارس تابعة لوكالة "أونروا"، بعد أن طلبت منهم إدارة مراكز الإيواء من موظفي الوكالة إخلاء المدارس، وذلك بعد وصول تهديدات مباشرة للجميع في المنطقة التي تشهد قتالاً في مدينة خانيونس ومحيطها، ونزح الكثير منهم سيراً على الأقدام من دون معرفة أي طريق يسلكون، أو إن كانت وجهتهم آمنة.
في الخامس من ديسمبر/كانون الأول، وصل بكر النجار (45 سنة) إلى منزل أحد أقاربه في مخيم الشابورة في الجهة الشمالية لمخيم رفح الكبير جنوبي القطاع، لكن بعد يوم واحد من وصوله، ارتكب الاحتلال مجزرة بقصف وسط المخيم، وتدمير منزل عائلة الهوبي، والذي راح ضحيته أكثر من 20 فرداً معظمهم من الأطفال والنساء، فقرر النزوح مجدداً، وصولاً إلى الحدود المصرية.
يروي النجار لـ"العربي الجديد"، أنه كان يعيش في أبعد نقطة من شمالي قطاع غزة بالقرب من أبراج الندى القريبة من معبر "إيرز" الفاصل مع منطقة سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، والمخصص لخروج ودخول الحالات الإنسانية الطارئة، وموظفي المنظمات الأممية والدولية.
تنقل بكر بين ما يقارب 10 أماكن نزوح، ويقول إن زوجته جهزت مسبقاً عدداً من الأكياس التي وضعت فيها بعض الملابس والأغراض المنزلية القليلة، لكن تلك الأكياس لم يتم فتحها منذ أسبوعين، فخلال تلك الفترة تنقلوا بين أربعة أماكن مختلفة، وفي جميعها كانوا معرضين لخطر القصف الإسرائيلي، وقد نجوا من الغارة على مخيم الشابورة، لكنهم فقدوا غالبية الأغراض المنزلية في القصف.
يقول النجار لـ"العربي الجديد": "في المساء، تأتي كلاب كثيرة إلى المنطقة الحدودية، وأخبرنا الناس أنها كانت منطقة للكلاب الضالة، ووجدنا الكثير من الجحور الصغيرة للكلاب، وبعض مخلفاتها، لكننا وضعنا الخيام فوق تلك المخلفات، كما أن الطعام هنا معدوم، ونمشي مسافات كبيرة يومياً حتى نصل إلى مناطق تواجد المياه، وبعض الطعام القليل المتوفر في بعض المتاجر".
العدد الأكبر من النازحين الغزيين لا يملكون الطعام أو مياه الشرب
وتحدث من وقت إلى آخر شجارات بين النازحين على المساحات الفارغة المتبقية في المنطقة القريبة من الحدود، وتحرص العائلات على الحصول على تلك المساحات لتقيم فيها الخيام، ويتشبثون بأي مساحة تجمع النازحين بدلاً من البقاء في مناطق معزولة، أو في تجمعات المنازل التي يتم استهدافها منذ بداية العدوان.
وتحولت بعض المناطق النائية إلى تجمعات خيام للنازحين من مدارس "أونروا" وبعض الأحياء التي نزحوا إليها سابقاً، لكن بعضهم يبدي القلق من قصف الاحتلال للمنطقة الحدودية، ولا يصدقون أنها منطقة آمنة، فقد زعم الاحتلال في بداية العدوان أن مناطق جنوب وادي غزة آمنة، لكنه يواصل قصفها واجتياحها مثل مناطق الشمال.
يقول إياد أبو عرب (50 سنة)، وهو نازح من منطقة السطر الغربي في مدينة خانيونس، إن منزله ومنزل شقيقه كانا يضمان أكثر من 100 فرد، وإن جميعهم نزحوا إلى قرب الحدود بعد قصف المنطقة، لكنه يشعر حالياً بقلق كبير من أن تهجيرهم إلى الجانب المصري قد يحصل في أي وقت، ويؤكد أن طائرات الاحتلال لا تغيب عن التحليق في المنطقة.
يضيف أبو عرب لـ"العربي الجديد": "لم نأكل شيئاً منذ يومين، والماء أيضاً شحيح، وقد وصلت إلى مرحلة ما بعد الجوع، وأتوقع الأسوأ، فالمنطقة لا يوجد فيها أية مقومات للحياة، والقليل من المساعدات تصلنا، لكنها لا تكفي حاجة الأطفال، وآخر مرة تناولت فيها وجبتين متتاليتين كانت قبل شهرين، وعيوننا معلقة بالسماء، فالقصف يمكن أن يحدث في أي لحظة، والتهجير محتمل".
ويقدر مكتب الإعلام الحكومي في غزة، أن أكثر من 40 ألف نازح من مناطق مدينة غزة وشمالي القطاع وصلوا إلى مدينة خانيونس، ثم هرب الكثير منهم من مناطق شرقي خانيونس تاركين المدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء نحو مدينة رفح، وهي آخر منطقة في جنوبي القطاع على الحدود المصرية، ومعهم الكثير من سكان خانيونس، بينما باتت الدبابات الإسرائيلية تبعد نحو 1500 متر عن مستشفى ناصر في وسط مدينة خانيونس، ولايزال بعض السكان صامدين في وسط وجنوب المدينة.
وفي السادس من الشهر الحالي، قامت وكالة "أونروا" بإخلاء أربعة مراكز إيواء تابعة لها في مدينة خانيونس، في أعقاب صدور أوامر بالإخلاء من السلطات الإسرائيلية، وأخلت مسؤوليتها عن النازحين بعد أن كانت تلك المدارس تشكل ملجأ للنازحين، وبات عدد مراكز الإيواء التابعة للوكالة في مناطق الوسط وخانيونس ورفح 94 مركزاً، رغم أن عدد النازحين زاد خلال الأيام الأخيرة، ومن بينهم العديد من الحالات الأكثر حاجة للإيواء من المسنين والمرضى والأطفال.
وقصفت طائرات الاحتلال في السادس من ديسمبر، مدرستين تابعتين لأونروا في داخل مدينة خانيونس، كانتا تضمان مئات النازحين الذين لجأوا إليهما، واستشهد على إثر ذلك اثنان من النازحين، كما تأثرت المدرستان بشكل مباشر.
وتشير بيانات وكالة "أونروا" إلى تضرر 129 من مبانيها منذ بداية العدوان، من بينها 34 منشأة تضررت بشكل كلي، فيما أصيبت 57 منشأة بأضرار جانبية، وتقدر استشهاد ما مجموعه 276 نازحاً كانوا يحتمون في مراكزها منذ بداية العدوان، وإصابة 974 آخرين على الأقل، فضلاً عن استشهاد 133 من العاملين التابعين للوكالة حتى الثامن من الشهر الحالي.