تجتمع نسوة تونسيات عند الساعة الخامسة صباحاً تحت شجرة في إحدى البلدات انتظاراً لعربة تقلهن إلى الأراضي الزراعية، حيث مساحات شاسعة مزروعة بنبات "عباد الشمس". عند وصولهن، يعملن في جمع المحصول حتى الساعة العاشرة صباحاً، ثم يتوقفن عن العمل بعد ارتفاع درجة الحرارة، ليعاودن العمل نفسه مجدداً عند الساعة الخامسة، ويواصلن العمل حتى الثامنة ليلاً.
تقول العاملة عائشة (45 سنة) إنّهن "يعملن في أوقات مبكرة حتى يتفادين درجات الحرارة المرتفعة خشية الإصابة بضربة شمس، خصوصاً أنّ العمل يدوم ساعات طويلة تحت أشعة الشمس، ويتم اقتسام الوقت بين ساعات الصباح الأولى والساعات الأخيرة من اليوم. لكن يُخصص الوقت الصباحي لجمع أكبر قدر ممكن من المحصول، فيما يتم في الفترة الثانية استخراج حبات عباد الشمس".
وتتميّز النبتة بلونها الأصفر الزاهي، وحجم زهرتها الكبير، ويطلق عليها هذا الاسم لأنّها تتبع وجهة الشمس أينما تحوّلت طوال النهار، وهي تزرع في مطلع شهر إبريل/ نيسان، وتجمع بعد ثلاثة أشهر تقريبا، أي في نهاية يوليو/تموز.
وتشتهر محافظة باجة التونسية بإنتاج عباد الشمس بحكم التربة الممتازة، والعوامل الجوية المناسبة، وتعتبر المنتج الأول لعباد الشمس في تونس، ويقدر إنتاجها بنحو 80 في المائة من إجمالي إنتاج البلاد، ويفوق عدد المنتجين فيها 300 مزارع، وفق وزارة الزراعة، ورغم مدّة زراعتها القصيرة، والعمل فيها أربعة أشهر، إلا أنّها توفر وظائف لعدد كبير من سكان الجهة، خصوصاً من النسوة والأطفال.
يعمل المزارعون على زراعة مساحات شاسعة من عباد الشمس، وتقوم بتلك المهمة النسوة أيضاً نظراً لسهولة زراعتها، ولأنّ البذور طعام مفضل لدى الطيور، تُقوم النسوة بتثبيت عشرات الفزاعات الطاردة للطيور في المزارع الشاسعة، فيما يعمل الأطفال على مهمة التصفير لإحداث ضجيج طيلة اليوم لطرد العصافير، خصوصاً بعد نضج أزهار عباد الشمس.
خلال موسم جمع المحصول يتم قطاف الزهرة التي تتوسطها البذور، ويكون حجمها أحياناً في حجم صحون الأكل، ويتم تكديسها في مكان بعيد عن الأرض المزروعة، ليجري لاحقاً ضربها بعصي من الخشب لإخراج الحبات منها، ثم ترك البذور تحت أشعة الشمس لثلاثة أيام على الأقل حتى تجف، مع استمرار تقليبها.
تقول عائدة (30 سنة) إنّها تعمل في مختلف الأعمال الفلاحية بالجهة طوال السنة، وتعمل طيلة شهر يوليو في جمع محصول عباد الشمس، ويتواصل العمل يومياً لمدة ثماني ساعات، مقسمة بين الحصة الصباحية التي تقضيها في جني المحصول، والحصة المسائية لاستخراج الحبات.
ترتدي النسوة ملابس تغطي كامل أجسادهنّ لتقيهن من شدة حرارة الشمس، وتشير عائدة إلى أنّ "نساء الجهة يعملن في جمع المحصول ونفض حباته وتجفيفه، كما يعمل الأطفال معهنّ لتوفير مصاريف الدراسة، فيما يعمل الرجال في نقل المحصول إلى المخازن".
وتشتهر تونس بصفة عامة بإنتاج بذور عباد الشمس السوداء، والتي تستخدم في إنتاج الزيوت، أو تباع في محال بيع المكسرات والبقول الجافة. لكن تأثرت أرباح تلك العملية سلبياً بعد أن باتت البلاد تستورد البذور في سنة 2012، خاصة البذور البيضاء.
وأدى ركود الإنتاج خلال السنوات الماضية إلى خسائر كبيرة للفلاحين، وفقدان عشرات للوظائف الموسمية، بعد أن توقف كثير من الفلاحين عن إنتاج عباد الشمس، نظراً لعدم قدرتهم على ترويج محصولهم، وصعوبة منافسة المستورد.
وحسب وزارة الزراعة التونسية، فقد تراجعت المساحات المزروعة من 10 آلاف هكتار في سنة 2013، إلى قرابة 4000 هكتار فقط في سنة 2020.
ونظم الفلاحون على مدار السنوات الأخيرة، عشرات الوقفات الاحتجاجية أمام المكاتب الجهوية لاتحاد الفلاحة للمطالبة بوقف استيراد بذور عباد الشمس، وإنقاذ إنتاجهم. يقول عبد الكريم محمد، وهو أحد فلاحي محافظة باجة، لـ"العربي الجديد"، إنه توقف عن زارعة عباد الشمس منذ سنة 2014، بعد أن بات أغلب فلاحي الجهة غير قادرين على بيع محصولهم، كما أتلف العديد من الفلاحين ما كانوا يملكونه في المخازن بعد عدم القدرة على ترويجه، ما دفع العديد منهم إلى التفكير في عدم زراعة عباد الشمس مجدداً، على الرغم من أن محافظة باجة تظل المنتج الأهم. يضيف محمد: "أصبح بعض الفلاحين يزرعون بذور عباد الشمس البيضاء لمنافسة البذور المستوردة، وذلك بعد أن بات التونسيون يقبلون على استهلاكها بكميات كبيرة، في المقابل، تراجع إنتاج البذور السوداء على الرغم من أنها منتج مهم لتوفير زيوت نباتية تستعمل في الأكل. لكن حتى الزيوت بات يتم استيرادها".