مهن رمضان.. مورد رزق وتقاليد موروثة في المغرب
- قصص العاملين مثل ربيعة الأزهر وعز الدين تبرز الجهود الفردية والجماعية لتحقيق الكسب الحلال ومواجهة التحديات الاقتصادية، مؤكدةً على أهمية هذه المهن في النسيج الاجتماعي والاقتصادي.
- الأبعاد الثقافية والتاريخية للأطعمة والمهن المرتبطة برمضان تعكس زيادة الطلب على الاستهلاك وتوفر فرص عمل، لكنها لا تحل مشكلة البطالة والفقر بشكل جذري، بينما تعزز التضامن الاجتماعي وتحافظ على العادات الاجتماعية.
تتنّوع المهن والأنشطة الموسمية التي تزدهر خلال شهر رمضان في مختلف الأسواق الشعبية والساحات والأرصفة في المغرب، وتُساهم في إنشاء فرص عمل مؤقتة لفئات واسعة من المجتمع، وزيادة دخل فئات أخرى، في ظل موجة الغلاء وارتفاع وتيرة الاستهلاك، كما تعكس في مشهد آخر استمراراً لعادات وتقاليد اجتماعية متوارثة.
وتحظى المهن المرتبطة بالغذاء بأكبر حضور، وتتعدّد أشكالها وألوانها بين محلاّت بيع الحلويات التقليدية كالشباكية والبريوات، والفطائر كالمسمن والبغرير، إلى عربات التمور والعصائر وعلى رأسها عصير الليمون وقصب السكر، والجبن والبيض البلدي، وسط أجواء إنسانية واجتماعية تساهم في التعزيز الذاتي للاقتصاد الجماعي.
عند مدخل سوق الألفة بمدينة الدار البيضاء، تجلس الأربعينية ربيعة الأزهر أمام طاولة لبيع الفطائر التي جهّزتها في بيتها، وصفّفتها بعناية في طبق في انتظار الزبائن. تقول لـ "العربي الجديد": ''أجهّز المسمن والبغرير ورزّة القاضي، ثم أتوجه إلى السوق لبيعها، وكل يوم ورزقه. أحياناً أبيع كل الفطائر قبل أذان المغرب، وفي بعض المرات أبيع نصفها فقط، لكنني لا أعود خاوية الوفاض".
تضيف: "ما أجنيه من دخل أعيل به أسرتي. أنا أرملة وأمّ لثلاثة أبناء، ورمضان فرصة مناسبة لمضاعفة الرزق، خصوصاً مع الطلبات التي أتلقاها من زبوناتي من النساء العاملات، واللواتي يدفعن مقابلها بسخاء في شهر الخير والتكافل الاجتماعي، وهذا يُدخل الفرحة إلى قلبي ويدفعني إلى عدم اليأس أو الاستسلام. كل شيء يهون أمام ابتسامة أبنائي وقدرتي على تزيين مائدتهم بما استطعت إليه سبيلاً".
يعد حال ربيعة مشابهاً لكثيرات يعرضن فطائرهن ويحاولن إقناع الزبائن بجودة سلعهن. تختلف تفاصيل حكايتهن لكن يوحدهّن العمل الموسمي والسعي للكسب الحلال خلال موسم ينتعش فيه الإقبال على الفطائر. إذ يعتبر البغرير إلى جانب المسمن ورزة القاضي من بين الفطائر الرئيسية التي يعد حضورها ضرورياً مرفوقة بالزبدة والعسل على مائدة الإفطار المغربية خلال شهر رمضان.
ويقول الباحث في تاريخ الطبخ والحضارة المغربية هشام الأحرش، لـ "العربي الجديد"، إن "البغرير زيّن موائد الأجداد قبل مئات السنين، ما جعله مكوناً مهماً ضمن المائدة الرمضانية المغربية، باعتباره جزءاً من موروثهم". يضيف استناداً إلى كتاب "أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة"، أن "البغرير من أطيب الأنواع كلها وأسرعها هضماً وأجودها". ويشير إلى أن هذه الأكلة ضمن أكثر من 500 أكلة قدمها الكتاب الذي أرّخ لفن الطبخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين وهو لكاتب مجهول تحت اسم "صفة المشهدة وهي المثقبة"، مُرجّحاً أن يكون أصلها أمازيغياً محضاً.
ويرى أن ما يسري على هذه الأكلة يمكن أن ينطبق على بقية الفطائر والحلويات التي دأبت الأسر المغربية على تقديمها ليس فقط خلال شهر الصوم، وإنما كذلك في الأعياد والمناسبات الدينية. داخل محل في أحد الأسواق الشعبية بمنطقة الحي الحسني بالدار البيضاء، ينهمك عبد الكريم في تجهيز كميات من حلوى الشباكية، إلى جانب مساعديه الذين ينقسمون إلى فريق لقليها في حمام زيت وآخر متخصص في غمرها في العسل.
يقول عبد الكريم لـ "العربي الجديد": "تستعيد الشباكية بوصفها من أشهر الحلويات التقليدية مكانتها خلال رمضان، ويزيد الطلب عليها بكثرة من الزبائن بمختلف أعمارهم، ما يتطلب منا تعزيز فريقنا بيد عاملة إضافية، تباشر مهام القلي والتصفيف والبيع". يضيف: "لدينا طبّاخون محترفون يعكفون على تحضير الشباكية، إلى جانب البريوات والمقروط بالتمر وسلو، مستخدمين أجود المكونات التي تلبي حاجيات الزبائن، مع كثرة الطلب سواء للبيع بالتقسيط أو الجملة، إلى جانب باعة متمرسين لديهم من الخبرة ما يكفي لتسويق منتوجهم، ولعل هذا ما أكسبنا سمعة طيبة في السوق".
ويشير المتحدث الذي قضى في هذه المهنة أكثر من 18 عاماً إلى أنها بقدر ما تبدو سهلة وبسيطة، إلا أنها بحاجة إلى الصبر والقدرة على التحمل خصوصاً خلال أوقات الذروة، والتعامل مع الميزان بنزاهة، مشيراً إلى أن هامش الأرباح قد تقلص ولم يعد كما في السابق في ظل ارتفاع الأسعار.
غير بعيد، يقف الشاب العشريني عزّ الدين أمام مقلاة حديدية كبيرة وقد احمرت وجْنتاه. يضع عجين ورقة البسطيلة السائل فوق النار بشكل دائري، ويراقبه باهتمام مستعيناً بفرشاة والقليل من الزيت، ثم يرفعه بحذر بعدما نضج ويضع آخر مكانه في عملية متسارعة. يقول وهو يُصفّف الأوراق في صينية مجاورة، لـ "العربي الجديد"، إنه تعلّم تحضير ورقة البسطيلة على يد والدته، وبفضلها ضمن مورد رزق إضافي خلال شهر رمضان، إذ يكثر الطلب على اقتنائها من أجل استخدامها في حشوات عدة أطباق ووصفات مالحة وحلوة، خصوصاً في منتصف الشهر حيث تقدم بعض الأسر طبق البسطيلة بالدجاج واللوز المحلى.
ويوضح أن عمله يحتاج إلى الكثير من الخبرة والإتقان في ما يتعلق بتحضير العجين الذي يجب أن يجمع بين الخفة والليونة، فلا يغلب الدقيق على الماء، ولا يضاف الزيت إلا بمقدار معين، أو في ما يخص عملية الطهي. ولا يخفي أنّ هذا النشاط الموسمي يحتاج من صاحبه إلى جرعات كثيرة من الصبر لتحمل حرارة الطهي والوقوف طيلة اليوم، وتلبية كافة الطلبات، ولكنه في الوقت نفسه يمثل فرصة له لمواجهة البطالة، ومساعدة والدته التي أقعدها المرض، مشيراً إلى أنه يعود إلى عمله كمياوم في مجال البناء بعد انقضاء شهر الصوم.
من جهته، يقول أستاذ علم الاجتماع مولود أمغار لـ "العربي الجديد"، إن تنشيط العمالة بوظائف موسمية خلال شهر رمضان يوفر فرص عمل للشباب، وعادة ما تكون المهن التي يمارسونها مرتبطة بالدورة الغذائية لتلبية جزء من احتياجات الأسر الاستهلاكية. يتابع: "ينبغي الانتباه هنا إلى مسألتين أساسيتين؛ الأولى تتعلق بارتفاع معدل البطالة المقنعة نتيجة لزيادة الطلب على العمالة، ما يعود جزئياً إلى طبيعة الشهر الدينية وزيادة التضامن الاجتماعي، والمسألة الثانية، أن الشهر فترة ملائمة للتعزيز الذاتي للاقتصاد الجماعي، ويتضمن عمليات الشراء بين الفئات المختلفة جانباً من الدعم والتضامن الاقتصادي. هناك ضرورة للاعتراف بأن هذه الأنشطة التي توفر الاحتياجات الفورية للفئات المستهدفة لا تحل مشكلة البطالة والفقر والهشاشة بشكل جذري".
على الرصيف المقابل لمحل بيع ورقة البسطيلة، يقف البائع سعيد الصافي خلف عربته التي خصصها لبيع عصير البرتقال، الرائحة المنعشة، وحبات الفاكهة التي تزين العربة تستوقف المارة، خصوصاً في الساعات القليلة التي تسبق موعد الإفطار.
يقول سعيد لـ "العربي الجديد": "أغتنم فرصة شهر رمضان لبيع عصير البرتقال الطبيعي بالنظر لفوائده الصحية، وأتوخى الجودة في تسوّق الفاكهة حتى أحصل على عصير جيد أقدمه للزبائن في زجاجات لأضمن وفائهم لي طوال هذا الشهر. ما أجنيه لا يكفي مصاريف أسرتي، خصوصاً مع تضاعف الاستهلاك خلال شهر رمضان. لهذا أعمل ليلاً في بيع عصير قصب السكر حتى أضمن دخلاً إضافياً".
وغير بعيد عن المكان الذي يعرض فيه سعيد بضاعته، أوقف بائعون آخرون عربات لبيع الجبن الطازج في سلال صغيرة، واختار آخرون بيع البيض البلدي الذي يزيد عليه الإقبال خلال رمضان.
في مقابل انتشار المهن ذات البعد الاستهلاكي، يتميز رمضان بأهميته الروحانية، وبروز أنشطة تجارية أخرى، كبيع سجادات الصلاة والمصاحف والكتب الدينية والبخور والمسك والطيب. وتنشط بالموازاة محلات بيع وخياطة الأزياء التقليدية، وترتفع أسهم الجلابة التقليدية النسائية والرجالية والكندورة والقفطان.
ويقول أستاذ علم الاجتماع مولود أمغار، إن توسيع نطاق الأنشطة الموسمية خلال شهر رمضان يعكس طبيعة الطلب المتزايد على الاستهلاك خلال هذا الشهر. ويوضح استناداً إلى الإحصائيات التي تقدمها المندوبية السامية للتخطيط أنه خلال شهر رمضان يزيد متوسط استهلاك الأسر، وتخصص أكثر من ثلث النفقات للغذاء مقارنة بالأشهر الأخرى. ويعود جزء من هذا الارتفاع في الإنفاق على الغذاء إلى ارتفاع الأسعار.
مع ذلك، لا يعني هذا الانتعاش الجزئي في قطاع الغذاء أن هناك ارتباطاً إيجابياً بين شهر رمضان والاقتصاد، إذ تشير بعض الدراسات إلى انخفاض في بعض القطاعات مثل السياحة والنقل خلال هذا الشهر. ويعتبر أمغار أن التفاعل والسلوكيات والروابط الاجتماعية تعزز من خلال تبادل يتجاوز الجانب المادي ليشمل الجانب الرمزي بين الأفراد، بغض النظر عن صلات القرابة أو التاريخ المشترك. وهذا يُسهم في إعادة تشكيل عدد من العادات الاجتماعية بأشكال جديدة، مع الحفاظ على جوهرها ومضمونها.