مهن الفقراء... العراق في زمن الحاجة

09 أكتوبر 2021
متجر بالة في بغداد (سفيان عرار/ فرانس برس)
+ الخط -

 

وسط الأزمات المالية وكذلك أزمة كورونا الصحية التي خلّفت أضراراً جسيمة في البلاد، أجبر العراقيون على استعادة مهن من الماضي لتلبية بعض احتياجاتهم، ما أحيا أسواق البالة ومهنتَي الإسكافي والخياط.

غيّر تفشي فيروس كورونا الجديد في العراق والتداعيات الاقتصادية التي تسبب فيها وأبرزها على صعيد ارتفاع نسبة البطالة، ثم خفض الحكومة سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار الأميركي، أموراً كثيرة في الحياة اليومية للمواطنين وشؤونهم وكذلك أساليب الشراء. وكان لافتاً إعادة انتعاش مهن تتعلق بفقراء مثل العمل في أسواق الملابس المستعملة أو البالة، ومهنة الإسكافي الذي يصلح أحذية وحقائب ومصنوعات جلدية، والخياط الذي يصنع ملابس ويعدّل مقاساتها وما إلى ذلك.

ومنذ بدء انتشار الوباء في العراق في مارس/ آذار 2020، فقد أكثر من 2.5 مليون شخص وظائفهم في القطاع الخاص، ويشمل ذلك مهناً ووظائف بأجور يومية أوقفتها إجراءات حظر التجول وتلك المتعلقة بتدابير الحماية في الأماكن العامة. ورغم عودة هذه الأعمال تدريجاً بعد نحو عام، ما زال تأثيرها يشمل متضررين يشكلون نسبة كبيرة من المجتمع. وقد زاد تردي الأوضاع المعيشية ارتفاع أسعار السلع في الأسواق مع بدء تنفيذ الحكومة خطة لخفض سعر الدينار في مقابل الدولار منذ العام الماضي، في محاولتها لدفع مرتبات الموظفين بالعملة المحلية.

وتنتشر اليوم أسواق متعددة لبيع الثياب المستعملة في مختلف المدن خصوصاً العاصمة بغداد، والتي يقبل الناس عليها من مختلف الأعمار ومن كلا الجنسين لشراء ملابس وحقائب يحتاجونها وتباع بأسعار زهيدة مقارنة بتلك الجديدة. ويقول الطالب الجامعي حسن عيسى الذي يساعد والده في العمل ببيع الملابس المستعملة في سوق الباب الشرقي وسط العاصمة بغداد لـ"العربي الجديد" أن "الملابس المستعملة باتت مرغوبة لدى قسم واسع من شرائح المجتمع، ولم تعد تقتصر على الفقراء، بعدما عمّ الضرر الاقتصادي كل الفئات".

الصورة
الخياطون استعادوا حضورهم في سوق العمل (العربي الجديد)
الخياطون استعادوا حضورهم في سوق العمل (العربي الجديد)

وتحتل ملابس رجالية ونسائية وأطفال مكدّسة فوق طاولات خشبية مساحة من رصيف اتخذه والد حسن متجراً له، على غرار باعة متنقلين آخرين يعرضون بضائع مستعملة توفر لهم "مصدر رزق جيدا كونها وسيلة إغراء جيدة للزبائن الذين يستطيعون شراء عدد من القطع المختلفة بمبلغ يناهز نصف سعر قميص جديد"، بحسب ما يقول عيسى الذي يؤكد انجذاب زملائه وزميلاته في الجامعة إلى شراء كل ما يحتاجونه من ملابس من أسواق البالة. ويوضح عيسى: "بات زملاء وزميلات كثر في الجامعة من مرتادي أسواق البالة التي تبيع ملابس مستعملة مستوردة، بعضها من ماركات عالمية معروفة، لأنهم بغالبيتهم لا يملكون القدرة على الإنفاق على احتياجاتهم الخاصة بالطريقة ذاتها التي اعتادوا عليها قبل أكثر من عامين".

قضايا وناس
التحديثات الحية

وفي إطار الاستعداد للعام الدراسي المقبل، باشرت عائلات كثيرة تجهّيز أبنائها للالتحاق بالمدارس التي سوف تستقبلهم حضورياً، تنفيذاً لقرارات أصدرتها الجهات الحكومية المعنية.

تخبر فاطمة عليوي "العربي الجديد" أنها اشترت لأبنائها أربع حقائب متينة ومن نوع جيد من سوق البالة بسعر ألفَي دينار (نحو 1.5 دولار) للحقيبة الواحد، مشيرة إلى أن "سعر حقيبة واحدة جديدة من النوع الرديء لا يقل عن عشرة آلاف دينار (نحو سبعة دولارات)". وإلى جانب الحقائب، اشترت فاطمة لأبنائها 27 قطعة مختلفة تضمنت أحذية وملابس داخلية وقمصاناً وسراويل وأطقما رياضية بمبلغ 53 ألف دينار (نحو 36 دولاراً). وتقول: "كنت سأنفق أكثر من 400 ألف دينار (نحو 275 دولاراً) لو اشتريت هذا العدد من القطع وهذه الأنواع من الملابس من أسواق الملابس الجديدة. من هنا وفرّت الملابس المستعملة كثيراً من المال عليّ وعلى زوجي الذي يعمل في مجال البناء وتأثر عمله كثيراً بسبب قلة الفرص".

وفيما تُعَدّ مهنة الإسكافي الذي يصلح أحذية وحقائب ومصنوعات الجلدية من بين مهن كثيرة شهدت تراجعاً كبيراً في عدد مزاوليها العراقيين منذ أكثر من 15 عاماً، بعدما عُدّت من بين الأكثر قدماً التي عرفها أبناء البلاد طوال عهود، ظهرت مجدداً في الأسواق على شكل بسطات على أرصفة وأكشاك ومتاجر صغيرة في داخل أحياء سكنية، خصوصاً في المناطق الشعبية الفقيرة. وكانت مهنة الإسكافي قد تأثرت بتجارة الاستيراد العشوائي لمختلف البضائع بعد عام 2003، والتي وفرت كل أنواع السلع في الأسواق بأسعار تنافسية، من بينها الملابس والمصنوعات المختلفة التي تدخل في صلب عمل الإسكافي، ما أجبر عددا كبيرا من أصحاب هذه المهنة على إغلاق متاجرهم.

الصورة
"الإسكافي" مقصد مهم للفقراء (صفين حامد/ فرانس برس)
الإسكافي مقصد مهم للفقراء (سفين حميد/ فرانس برس)

يخبر زيد حساني، وهو شاب تزوج قبل أربعة أعوام، "العربي الجديد"، أنه تعلم مهنة الإسكافي من والده الذي امتلك محلاً في سوق شعبي شرقي بغداد قبل أن يترك المهنة بسبب تدهور صحته، ما جعل أبناءه يتحملون مسؤولية معيشة الأسرة. ويوضح حساني: "لم أزاول المهنة لأنني حصلت على وظيفة جيدة في شركة سياحية قبل خمسة أعوام. لكن عمل هذه الشركة تأثر كثيراً بتداعيات أزمة كورونا وتمّ تسريحي من الوظيفة، ما اضطرني الى مزاولة مهنة والدي السابقة واستئجار محل صغير في سوق شعبي وسط بغداد". ويشير حساني إلى أن عمله يزدهر ويحقق مدخولاً مالياً جيداً لأسرته الصغيرة المؤلفة من زوجة وطفل واحد. ويقول إنّ "مرتادي محلي بغالبيتهم أشخاص بسطاء وفقراء لا يملكون ما يوفّر قوتهم اليوم. والنسبة الكبرى من عملي تشمل إصلاح أحذية وحقائب. والذين يرتادون محلي يؤكدون لي أنهم كانوا يستغنون عن أحذيتهم التي تتعرض الى تلف يمكن إصلاحه ويشترون أخرى جديدة بدلاً منها، لكن حالهم لم تعد تسمح بذلك اليوم".

كذلك عاد الخياطون إلى تصليح الملابس لتتناسب مع أشخاص مختلفي الأعمار في العائلات العراقية، علماً أنّها كانت قد رافقت سنوات الحصار الذي شهده العراق مطلع تسعينيات القرن العشرين واستمر حتى عام 2003، نتيجة الفقر الشديد الذي عاشه حينها قسم كبير من المواطنين.

ويقول شاكر الهاشمي وهو خياط يزاول مهنته منذ أكثر من 30 عاماً، إن "التداعيات التي شهدها اقتصاد البلد والضرر المالي الكبير الذي لحق بفئات المجتمع عموماً جعلا الوضع يشبه كثيراً ما عشناه في خلال سنوات الحصار، إذ أقبل الناس على إصلاح ملابسهم وترتيبها كي تتناسب مع الأبناء والبنات الأصغر سناً، وهو ما افتقدناه طوال سنوات إثر تحسن الوضع المعيشي ورخص أسعار الملابس المستوردة."

المساهمون