مع إطالة أمد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ودخولها أسبوعها الرابع، يتخوف الملايين من أبناء الجاليات الروسية في الخارج، لا سيما في الدول الغربية، من تعرضهم للتمييز والتهميش وانعكاس الأزمة السياسية والعسكرية الراهنة على أوضاع المغتربين الروس العاديين الذين لا يمتون إلى السياسة بصلة. في هذا السياق، يلفت الناشط الاجتماعي الروسي المقيم في لاتفيا فيتالي رودنيف إلى تنامي التوتر في المجتمع اللاتفي إثر الأحداث الأخيرة، مقراً في الوقت نفسه بأن التمييز بحق الروس في دول البلطيق ليس وليد اللحظة.
ويقول رودنيف في حديث لـ "العربي الجديد" من العاصمة اللاتفية ريغا: "على ضوء الوضع العسكري والسياسي الراهن، رصد تنامي التوتر في المجتمع اللاتفي المنقسم فعلياً إلى شقين؛ أحدهما ناطق بالروسية والآخر باللاتفية. تم وقف بث جميع وسائل الإعلام الناطقة بالروسية، وفرضت رقابة صارمة للغاية. يقوم أنصار أوكرانيا اللاتفيون بأعمال تخريبية بحق آثار الحرب العالمية الثانية الغالية على قلوب الروس المدنيين".
وبعد يومين على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، أعلنت وزارة العدل اللاتفية أن النصب التذكاري للجنود السوفييت يشكل خطراً على الأمن القومي للبلاد، ملوحة بإمكانية تخلّي لاتفيا عن التزاماتها بحماية النصب الذي يرمز إلى "إمبراطورية الشر".
مع ذلك، يلفت رودنيف إلى أن التوتر الإثني في لاتفيا ليس ظاهرة جديدة. ويقول إن "37 في المائة من سكان لاتفيا يعتمدون اللغة الروسية لغةً رئيسيةً للتواصل داخل الأسر. إلا أن الدولة اتبعت على مدى 30 عاماً من الاستقلال سياسات التمييز بحق الروس والناطقين بالروسية. هناك دولتان فقط في العالم، هما إستونيا ولاتفيا، تصدران لسكانهما أوراق هوية غير المواطنين، لتحرما هذه الفئة من حقوقها".
ويعطي أمثلة على هذا التمييز بحق الروس قائلاً: "فعلياً، تم إخراج اللغة الروسية من المعاملات الرسمية للهيئات الحكومية والمحلية. وحرم اللاتفيون الناطقون بالروسية من حق التعليم بلغتهم الأم عن طريق تحويل جميع المدارس إلى الدراسة باللغة اللاتفية. وتواصل لاتفيا انتهاج السياسة القومية خلافاً لتوصيات الجهات الأوروبية".
من جهته، يقر رئيس تحرير موقع "الحقل الروسي" المعني بشؤون الجالية الروسية في ألمانيا يوري يريمينكو بوقوع حوادث التمييز بحق الروس المقيمين في ألمانيا، بمن فيهم تلاميذ المدارس الألمانية. ويقول لـ"العربي الجديد": "بشكل أساسي، يبلغ الناس عن حالات الاعتداء على الأطفال الناطقين باللغة الروسية في المدارس. يطالب بعض المدرسين الأطفال بالإدلاء بتصريحات سياسية، وهو أمر غير مقبول تماماً. لكنني علمت أنه لدى توجههم إلى الموظفين الألمان للتقدم بشكاوى، فإنهم تفاعلوا بجدية مع الأمر ووعدوا باتخاذ الإجراءات اللازمة. وترددت أيضاً أنباء عن وقوع اعتداءات على أشخاص بالغين ناطقين بالروسية، بينما تخاذلت الشرطة عن إبداء رد فعل جدي حيال ذلك".
ويحمل يريمينكو الإعلام والساسة الألمان المسؤولية عن هذا الوضع، مضيفاً: "تخلق وسائل الإعلام الألمانية والسياسيون جواً صعباً للغاية بإصدارهم تصريحات مناهضة لروسيا، الأمر الذي ينعكس سلباً على أوضاع الجالية. ونرصد أن السياسيين غير مطلعين بشكل جيد على جوهر وتاريخ النزاع في أوكرانيا. أما غالبية الألمان العاديين، فيكادون لا يعلمون شيئاً عن سياق النزاع الداخلي الأوكراني".
في المقابل، لم يشعر الروس المقيمون في الولايات المتحدة، على الرغم من أن واشنطن تسبق غيرها من الدول الغربية في فرض العقوبات على روسيا، بهذا التمييز على ضوء الأحداث الأخيرة، وفق ما تؤكده أناستاسيا، وهي امرأة روسية في الـ38 من عمرها تقيم في هذا البلد منذ قرابة عقدين.
وتقول أناستاسيا في حديث لـ"العربي الجديد" من مدينة بوسطن الأميركية: "على الرغم من أن الجميع هنا يتبنون مواقف سلبية جداً تجاه الحرب، إلا أن لدي شعوراً بأن ذلك لم ينعكس على معاملة الأميركيين للروس بأي شكل من الأشكال. غالبية من أتعامل معهم هنا ليسوا من الناطقين بالروسية، ولكنهم جميعهم تقريباً أرسلوا لي رسائل تضمنت كلمات دعم موجهة إلي. يدرك الجميع أن الوضع معقد جداً، ولا جدوى من تحميل الشعب الروسي المسؤولية عما يجري".
من جهتها، ذكرت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية مؤخراً أن مكتب موسكو لحقوق الإنسان أعد تقريراً حول انتهاكات حقوق المواطنين الروس والمغتربين في الخارج على خلفية الوضع في أوكرانيا. ورصد التقرير تمييزاً صريحاً بحق الروس في الدول الأوروبية لم يعد يقتصر على الشعارات المناهضة للروس، بل وصل إلى حد تهديدات حقيقية للناس، وبصفة خاصة المعتقلين الناطقين بالروسية في السجون الأجنبية الذين كانت أوضاعهم هشة حتى قبل الأزمة الراهنة.
وأفاد التقرير بتلقي البعثات الدبلوماسية ووزارة الخارجية الروسية والمنظمات الحقوقية، منذ نهاية فبراير/ شباط الماضي، مئات الشكاوى من المغتربين الذين يزعمون أنهم أصبحوا يخافون حتى أن يتحدثوا بلغتهم الأم في الأماكن العامة بعدما سمعوا تنديدات وإساءات وحتى تهديدات بالعنف.
وتعد الجالية الروسية واحدة من أكبر الجاليات في العالم، وتتراوح التقديرات لعدد المغتربين الروس ما بين 25 و30 مليوناً يتركز معظمهم في الجمهوريات السوفييتية السابقة كأوكرانيا وكازاخستان ودول البلطيق، ما دفع روسيا في السنوات الماضية إلى سن مجموعة من القوانين من شأنها تسهيل إجراءات منح الجنسية الروسية للأجانب من أصول روسية.
وتعود جذور المهجر الروسي إلى ثورة البلاشفة عام 1917 التي دفعت بعدد من النبلاء الروس إلى مغادرة البلاد. لكنّ الموجة الكبرى من الهجرة تزامنت مع فترة الاضطرابات والتحولات وتردي الأوضاع الاقتصادية التي عاشتها البلاد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي.