ينفذ المعلمون في السودان منذ العاشر من مارس/ آذار الماضي إضراباً عن العمل احتجاجاً على تردي أوضاعهم المعيشية وقلة رواتبهم، ما قد يهدد في حال استمراره فترة طويلة مستقبل العملية التعليمية وامتحانات المراحل الأخيرة تحديداً. وأكدت لجنة المعلمين، الجسم النقابي الذي يدافع عن حقوق المعلمين، في بيانات عدة، أن "المعلمين في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، يعانون يومياً من تراجع ظروف معيشتهم بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية وانهيار قيمة العملة المحلية، وكذلك من الجبايات والرسوم التي أرهقت كل أسر البلاد في ظل الظروف الصعبة السائدة حالياً، ويواجهون مشقات في التعامل مع ندرة الكتاب المدرسي وتدهور بيئة العمل وشروط الخدمة، ما يؤثر على رسالتهم في تقديم تعليم ذي نوعية جيدة لأجيال المستقبل".
وشددت اللجنة على أن "المعلمين في السودان لا يطالبون إلا بحقوقهم، وتحلوا بالصبر سنوات، وتمسكوا بمواصلة بذل التضحيات الكبيرة مع منحهم السلطات الكثير من الفرص لتنفيذ مطالبهم المستعجلة، وآخرها ما أُتفقوا عليه مع حكومة رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك، على صعيد الإبقاء على كل العلاوات والبدلات في هيكل الرواتب". وأوضحت أن "الإضراب الذي أعلن في العاشر من مارس/ آذار الماضي يهدف في الأساس إلى استرداد الحقوق، مع التمسك بجدول تصعيد مستمر".
مطالب لا تلبي أقل الاحتياجات
ويلخص رئيس المكتب التنفيذي للجنة المعلمين علي عبيد في حديثه لـ"العربي الجديد" مطالب المعلمين في الإضراب الذي أطلقوا عليه اسم "إضراب الكرامة"، بتعديل الحد الأدنى للأجور من 12 ألف جنيه (25 دولاراً)، كما ورد في ميزانية الدولة لعام 2020، إلى 24 ألف جنيه (50 دولاراً). ويوضح أن "الحد الأدنى للأجور كان 3 آلاف جنيه أي أقل من دولار واحد شهرياً عام 2019، ثم ارتفع إلى 12 آلف جنيه (25 دولاراً) في الميزانية الجديدة، لكنه لا يلبي أقل الاحتياجات الأساسية للأسر، لذا طالبت لجنة المعلمين بمضاعفته بنسبة 100 في المائة كي يصل إلى 24 ألف جنيه (50 دولاراً)، وهو مبلغ لا يوازي أيضاً التضخم الحالي والارتفاع الجنوني في أسعار السلع والخدمات". ويشير إلى أن اللجنة توصلت إلى رقم الحد الأدنى المعلن للأجور بعد دراسة علمية لأسر تضم متوسط 5 أفراد، وهي تهدف فقط عبر هذا الرقم إلى الخروج من الوضع المزري الذي يعيش فيه المعلمون الآن، وبلوغ وضع تتوفر فيها الضروريات الأساسية من طعام وشراب، بعيداً حتى من أي مخصصات للترفيه والكماليات". يضيف: "طالبت اللجنة أيضاً بإزالة التدابير المشوّهة في الهيكل الجديد للرواتب عبر تضمينه كل العلاوات والبدلات، وكذلك صرف الفروق القديمة، لكننا مندهشون من عدم استجابة وزارة المال لهذه المطالب أو حتى الرد على مذكرة أودعناها مكتب الوزير قبل أسابيع".
مصلحة المعلمين
وحول مدى التزام المعلمين بخطوات الإضراب، يوضح عبيد أن "التدابير استهلت بوقف الدروس يوماً واحداً في الأسبوع، ثم يومين قبل تنفيذ إضراب شامل، ونسب نجاحه عالية جداً وتتجاوز أحياناً 90 في المائة، رغم محاولات التضييق والضغوط التي مارستها إدارة التعليم والوزارات في الولايات على المعلمين ومديري المدارس، بينها نقل مديرين واعتقال بعضهم أو تغيير الفترة المحددة لإنهاء العام الدراسي في بعض الولايات، إضافة إلى إعلان عن امتحانات تجريبية للفصل الثامن النهائي".
ورداً على الانتقادات التي أطلقت حول تأثير الإضراب على العملية التعليمية، وعدم مراعاته مصلحة التلاميذ، اعتبر عبيد أن "هذه المزاعم تتناقض بالكامل مع الواقع، فتحسين وضع المعلمين هو الركيزة الأساس لأي عملية تعليمية في العالم، ومن دون معلمين يعملون ضمن أوضاع نفسية ومعيشية مستقرة لا يمكن أن تنجح العملية التعليمية، والمعلمون في ظل الظروف الحالية يستهلكون أنفسهم في المدارس الخاصة والحصص المنزلية كي يجلبوا مداخيل إضافية، ما يؤثر على أدائهم في المدارس الحكومية، وينعكس تلقائياً على تحصيل التلاميذ ونتائجهم".
ولم يستبعد عبيد تصعيد المعلمين تحركاتهم أثناء الامتحانات المرحلية للصف السادس ابتدائي والصف الثامن أساسي، والصف الثالث ثانوي، و"كل الخيارات مفتوحة أمامهم". وحول مستقبل التعليم في البلاد، يؤكد عبيد أن "جهوداً مضاعفة يجب أن تبذل لتدارك سلبيات تدني البيئة المدرسية والإضراب الحالي على المناهج، ومعالجة الظروف الاقتصادية الصعبة للمواطنين الذين أصبح التعليم عبئاً اقتصادياً إضافياً عليهم. وكل ذلك يمثل رد فعل لما جرى تخطيطه قبل انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي".
التزام بالإضراب
ورغم مضي 3 أسابيع على إضراب المعلمين، لا تزال السلطات تلتزم الصمت بالكامل، ولم تصدر أي رد فعل حتى الآن. ويقول معلمون إن "كل ما تفعله السلطات هو مواصلة محاولاتها لكسر شوكة الإضراب والحد من فعاليته، عبر استخدام سلاح النقل والإقالة وإعفاء مديري الإدارات والمدارس للتخويف، علماً أن الإعفاء شمل 40 مديراً في الفترة الأخيرة".
في المقابل، تدعم لجان المقاومة السودانية الإضراب وتسانده، علماً أنها نظمت في مناسبات عدة مواكب لدعم المعلمين خصوصاً بعد ضرب معلمين اعتقلوا في مدينة نيالا (غرب)، ما أجبر الشرطة لاحقاً على الاعتذار عن الحادثة.
ويرى معلم في مدرسة ود السائح الثانوية ويدعى عوض الشيخ في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "تجاهل السلطات مطالب المعلمين يؤكد أنها حكومة لا تحترم المعلم ولا التعليم"، مؤكداً أن جميع معلمي مدرسة ود السائح التزموا بالإضراب بالكامل على غرار عدد كبير من معلمي المدارس الثانوية في ولاية الخرطوم.
ويقول: "أنا شخصياً معلم من فئة الدرجة الثانية منذ سنوات، وأواجه مثل معلمين آخرين ظروفاً صعبة جداً، خصوصاً أن غالبيتنا لا نملك منازل ونسكن بالإيجار. وأحد زملائي يقطع مسافة 10 كيلومترات مشياً على الأقدام للوصول إلى المدرسة لأنه لا يملك ثمن تعرفة المواصلات. من هنا أستنكر بشدة عدم تحسين وزارة المال ظروف الموظفين وتجاهلها شريحة المعلمين الذين أتوقع أن يدخلوا دائرة الفقر والتسوّل إذا استمر الوضع كما هو الآن". ويؤكد أن المعلمين الذين تركوا المهنة واشتغلوا بالتجارة أو قيادة مركبات "تيك توك" أو مارسوا مهناً هامشية أخرى بات وضعهم أفضل مما كانوا عليه، ويرجح تزايد معدلات هجرة المعلمين لمهنتهم خلال الفترة المقبلة.
"توقيت خاطئ"
من جهته، يقول مدير إدارة الإعلام التربوي بوزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم، ياسين إبراهيم الترابي، لـ"العربي الجديد" إن "الدولة تدرك وتقر بحجم معاناة المعلمين وتضحياتهم العظيمة لبناء أجيال للمستقبل، وإن وزارة التربية والتعليم تدعم بقوة مطالب المعلمين الخاصة بزيادة رواتبهم وتحسين بيئة عملهم وإزالة كل العقبات التي تعترض مسيرة التعليم في البلاد، لكننا نحذر من الاستغلال السياسي لقضايا ومشكلات المعلمين من أجل تحقيق مكاسب".
ولمّح إلى أن "لجنة المعلمين التي تتبنى الإضراب مجرد واجهة سياسية جرى حلها في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأصبحت لا تمثل المعلمين بعدما فشلت خلال السنوات الماضية في تحقيق المطالب ذاتها، حين كانت الكيانات التي تنتمي إليها في قمة السلطة". ويعتبر أن "الإضراب الذي أعلنته اللجنة حقق فشلاً ذريعاً في ولاية الخرطوم وغيرها، وهو نفذ في توقيت خاطئ لأن العام الدراسي على مشارف النهاية، والطلاب على أهبة الاستعداد للخضوع لامتحانات. من هنا يهدف الإضراب إلى زعزعة الاستقرار الدراسي لتحقيق أهداف سياسية". وحث الترابي المعلمين على انتظار تسلم الزيادات التي أقرت أخيراً، ومواصلة الدفع بمطالبهم خلال العام الدراسي الجديد.