معتقلو ومفقودو سورية... العيش على أمل صغير بأن يكونوا أحياء

12 ديسمبر 2024
أهالٍ خارج مستشفى دمشق يأملون معرفة هوية مفقوديهم، 11 ديسمبر 2024 (سالي هايدن/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد سقوط نظام بشار الأسد، بدأت العائلات السورية رحلة البحث عن المفقودين في السجون، مثل فاطمة الحمود التي تبحث عن ابنها منذ عشر سنوات، وتصف الجهود المبذولة دون جدوى.
- سجن صيدنايا، المعروف بـ"المسلخ البشري"، وسجون أخرى مثل المزة وعدرا، شهدت انتهاكات جسيمة، بما في ذلك مقابر جماعية وأفران حرق للجثث، وفق تقارير حقوقية.
- مع فقدان الأمل في العثور على أحياء، تطالب العائلات بالكشف عن مصير المفقودين، وتدعو منظمات حقوقية لحماية الوثائق وتوثيق الانتهاكات للمحاسبة المستقبلية.

بعد سقوط نظام بشار الأسد، وإطلاق سراح المعتقلين، عاد الأمل إلى الكثير من العائلات السورية التي اعتقل أو أخفي أفراد منها، باحتمال العثور على ذويهم، وقد بدأوا رحلة البحث

جلست فاطمة الحمود (من مدينة إدلب) في زاوية صغيرة بالقرب من سجن صيدنايا شمال العاصمة السورية دمشق، تحمل صور ابنها المفقود في سجون النظام السوري المخلوع منذ أكثر من عشر سنوات. هو الذي اعتقلته قوات الأمن التابعة للنظام من جامعة دمشق، وهي لا تعلم عنه أي شيء حتى اليوم. تروي بقلب يملأه الحزن والأمل في آن: "لم نترك باباً إلا وطرقناه، ولا جهة إلا وسألناها. سألت كل من خرجوا الآن من السجن لكن مصير محمد لا يزال مجهولاً". تضيف: "كل يوم أعيش على أمل أن يطرق الباب ويدخل من جديد، أو على الأقل أن أتلقى خبراً يريح قلبي. فالغائب يبقى حاضراً في أذهاننا دوماً". لا يختلف حالها عن حال آلاف الأسر السورية التي لا تزال تعيش مأساة غياب ذويها الذين فقدوا في سجون النظام، من دون أية معلومات تؤكد مصيرهم، ولا جثامين يشيعونها، أو قبور يزورونها.
تضيف الحمود لـ "العربي الجديد": "قبل أربع سنوات، أخبرنا أحد المفرج عنهم أنه رآه في أحد أفرع شعبة الاستخبارات العسكرية في دمشق. عشنا على أمل صغير أن يكون حياً. طرقت أبواب الوسطاء ودفعت الكثير من الأموال، لكن بلا جدوى. كل ما نأمله الآن هو كلمة واحدة، حي أم ميت".
سقط نظام بشار الأسد الذي ملأ السجون بآلاف الشبان والنساء وحتى الأطفال، سواء من المعارضين له، أو المشاركين في الحراك ضد حكمه، وحتى أولئك الذين لم يتدخلوا إطلاقاً في ما عاشته البلاد منذ اندلاع الحراك الشعبي المناهض للنظام في مارس/ آذار 2011. سقط النظام ولا تزال الكثير من أسراره غائبة، لا سيما بيانات المعتقلين والمغيبين والمخفيين قسراً في السجون والمعتقلات المتعددة، أبرزها سجن صيدنايا الرهيب سيئ الصيت، والذي يعتبر ثقباً أسوداً ابتلع الآلاف من السوريين طول فترة حكم النظام، وليس في الأعوام الـ 13 الأخيرة فحسب.
تتنوع وسائل الأهالي في البحث عن ذويهم بعد سقوط نظام الأسد وفتح أبواب السجون. يقضون الساعات بين البحث عن المعتقلين المحرّرين لسؤالهم، والبحث في المستشفيات وثلاجات الموتى فيها، والتواصل مع المنظمات والجهات المختصة بتوثيق وشؤون المعتقلين، لا سيما رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا وغيرها.
يقول يعقوب الحمو (والد أحد المعتقلين المفقودين): "دفعت كل ما أملك لأحد الوسطاء الذي ادعى أنه يملك معلومات عن ابني فقط لأعرف الحقيقة، أي ما مصير ابني الذي اعتقل منذ ثمانية أعوام عند أحد حواجز النظام؟ غير أن ذلك الوسيط اختفى ولم أسمع عنه شيئاً، وها أنا أبحث في السجون المحررة حديثاً من دون أي جدوى". يُطالب الحمو، وهو من قرية كرسعة بريف إدلب، المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة والسلطات الانتقالية بالعمل على "الكشف عن مصير المفقودين ومحاسبة المسؤولين عن فقدانهم، فصمت السجون ووجع الأهالي على أبنائهم المفقودين سيبقى جرحاً مفتوحاً ووصمة عار لا يمكن تجاوزها إلا بكشف الحقيقة أمام العدالة".
كانت 11 عاماً صعبة، لكن الـ 24 ساعة التي أعقبت سقوط النظام كانت الأصعب بالنسبة لهالة كليب التي تبحث عن شقيقها المفقود في السجون، بعدما اعتقلته قوات الأمن من منزله الكائن في حي التضامن في دمشق، لكن توقفها عن البحث كان الأكثر إيلاماً في حياتها، بعدما عثرت على جثة شقيقها، الاثنين الماضي، داخل غرفة تبريد في مستشفى حرستا قرب دمشق، إلى جانب نحو أربعين جثة موضوعة داخل أكياس بيضاء وعليها علامات تعذيب، بدا واضحاً أنهم قضوا حديثاً.

تقول لـ "العربي الجديد": "بعد يأسي من إيجاده في سجن صيدنايا والسجون الأخرى، توجهت إلى مستشفى حرستا للبحث عنه بين الجثث. كان المنظر رهيباً والجثث مشوهة ومكدسة فوق بعضها بعضاً". 
سجن صيدنايا أو "المسلخ البشري" واحد من عشرات السجون التي أنشأها النظام، سواء بشكل مستقل، أو داخل الأفرع الأمنية، والتي أودع وغيب فيها مئات الآلاف من معارضيه طوال 54 عاماً من حكم البلاد.

سجون النظام

إلى جانب سجن صيدنايا العسكري الذي يقع في ريف دمشق، وهو من أكثر السجون وحشية في العالم لاحتجاز معتقلي الرأي والمعارضين والمكان الأبرز للتعذيب والإعدام الجماعي، هناك سجن فرع الاستخبارات الجوية (المعروف بسجن المزة العسكري) ويقع في منطقة المزة في دمشق، وهو مركز رئيسي لاحتجاز الأشخاص الذين يُتهمون بمعارضة النظام،
وسجن عدرا المركزي الذي يقع في ضواحي دمشق، وهو عبارة عن مجموعة من السجون التي تضم المعتقلين السياسيين والسجناء الجنائيين. ويعاني المعتقلون فيه ظروفاً إنسانية صعبة، بما في ذلك الاكتظاظ ونقص التغذية.
ويقع فرع فلسطين (الفرع 235) في دمشق، وهو تابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، ومعروف بسمعته السيئة كأحد أخطر أماكن الاحتجاز في سورية، حيث يتعرض المعتقلون لأبشع أنواع التعذيب. وهناك فرع الخطيب (فرع 251) التابع لجهاز أمن الدولة ويقع في دمشق، وهو أحد الأفرع الأمنية التي تحتجز المعتقلين السياسيين والمعارضين، حيث يمارس فيه التعذيب الممنهج.

ينتظرون خارج مستشفى المجتهد في دمشق، 11 ديسمبر 2024 (أمين سنسار/ الأناضول)
ينتظرون خارج مستشفى المجتهد في دمشق علهم يجدون ذويهم بين الجثث، 11 ديسمبر 2024 (أمين سنسار/ الأناضول)

وتوجد سجون أخرى في عدد من الأفرع، كفرع المخابرات العسكرية في كفرسوسة، وفرع المنطقة، وفرع الدوريات الأمنية، وجميع هذه السجون تُدار من قبل الأجهزة الأمنية المختلفة، مثل الاستخبارات العسكرية، والمخابرات الجوية والعامة، ويمارس فيها التعذيب الجسدي والنفسي، والحرمان من الطعام، بالإضافة إلى الاحتجاز دون محاكمات، وهي رمز للقمع والإعدامات وإخفاء جثامين الضحايا في مقابر جماعية ومكابس الحديد وتذويب أجساد المعدومين بالأسيد، بحسب منظمات حقوقية.
في بقية المحافظات، هناك السجن المركزي في حمص (سجن حمص المركزي)، وهو مركز لاحتجاز المعتقلين السياسيين والجنائيين، وسجن حماة المركزي، والسجن العسكري في السويداء ويُحتجز فيه المعتقلون العسكريون والمدنيون ويعاني المعتقلون فيه من الأمراض بما في ذلك مشاكل الصحة والغذاء، وسجن اللاذقية المركزي ويضم معتقلين جنائيين وسياسيين والذي يعرف بالقسوة وسوء المعاملة.

فقدان الأمل

بدأ بعض ذوي المعتقلين بفقدان الأمل في العثور على مزيد من الأحياء في السجون، بعدما أعلن الدفاع المدني (الخوذ البيضاء)، توقف عمليات البحث التي بدأها منذ سقوط النظام، وإعلان رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا عدم وجود أي معتقل داخل أسواره حالياً.
وكانت مجموعات محلية بمشاركة الأهالي، قد اقتحمت فجر الأحد الماضي، سجن صيدنايا، وجرى إطلاق سراح آلاف المعتقلين والأسرى من داخله. ويؤكد مدير رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، دياب سرية، عدم وجود أي معتقل في السجن بعد الساعة الـ 11 صباحاً من يوم الأحد. ويقول في حديث لـ "العربي الجديد" إن "الأقسام المخفية تحت الأرض التي أشير إليها، هي نفسها أقسام المنفردات (السجن الانفرادي)، وهي موجودة في طابق واحد تحت الأرض، وليس ثلاثة طوابق، وجرى إطلاق سراح جميع المعتقلين من هذه الأقسام وعددهم نحو 250 معتقلاً".

خارج سجن صيدنايا، 11 ديسمبر 2024 (أمين سنسار/ الأناضول)
خارج سجن صيدنايا، 11 ديسمبر 2024 (أمين سنسار/ الأناضول)

كما ينفي سرية في تسجيل صوتي ما يجري تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول وجود أبواب سرية مقفلة أو طوابق مخفية لم يجر الوصول إليها بعد، موضحاً أن الرابطة لا تملك حتى الآن قوائم بأسماء المعتقلين، ما يبرر عدم تلقي العديد من الأهالي الذين يتواصلون مع الرابطة أي رد حول مصير ذويهم.
يقول مصدر في الرابطة لـ "العربي الجديد"، فضل الكشف عن اسمه، إنه تم التواصل مع مدير سجن صيدنايا، العميد أسامة محمد العلي، وأبدى استعداده للقدوم إلى السجن والكشف عن محتوياته في حال إعطائه الأمان من قبل فصائل المعارضة، لكنه عدل عن رأيه متذرعاً بأن الوضع الأمني لم يسمح له. يضيف أن مدير السجن اعترف بأن هناك سجناً سرياً في محيط سجن صيدنايا، لكن "العربي الجديد" لم تستطع التأكد من هذه المعلومات بشكل مستقل.
من جهته، يقول مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، لـ "العربي الجديد"، إن عدد المعتقلين الموثقين لدى الشبكة في عموم سورية هو حوالي 152 ألفاً، منهم 130 ألف معتقل في سجون الأسد. ويوضح أن عدد المعتقلين المفرج عنهم خلال اليومين الماضيين بلغ 30 ألفاً، من دون العثور على المخفيين قسراً وعددهم 100 ألف، وربما يكون معظمهم قد قُتل تحت التعذيب.
ويرى عبد الغني أن أحداً لا يستطيع الجزم بمصير من لم يُحرر من سجون الأسد خلال اليومين الماضيين، وهؤلاء إما توفوا تحت التعذيب، أو جرى نقلهم إلى أماكن احتجاز أخرى غير معروفة حتى الآن. يضيف: "أوصينا إدارة المعارضة بتجنب الإفراج العشوائي عن معتقلين من دون مراجعة دقيقة لملفاتهم، لأن ذلك قد ينجم عنه إطلاق سراح أفراد متورطين في ارتكاب جرائم، ما يُلحق ضرراً إضافياً بالضحايا وأسرهم. كما قد تُفسّر قرارات كهذه على أنها دليل على غياب الجدية في تحقيق العدالة، ما يؤدي إلى زعزعة ثقة المجتمع بالقضاء وتعزيز شعور عام بعدم الأمان".
في خضم ذلك، بدأت الأصوات تتعالى من قبل ذوي المعتقلين بالبحث في المقابر الجماعية، التي كشفت عنها تقارير المنظمات السورية والدولية الحقوقية، وحتى تقارير أجهزة الاستخبارات والحكومات الغربية.
عام 2017، أعلنت الولايات المتحدة عن اعتقادها بأن النظام السوري أقام محرقة للجثث قرب سجن صيدنايا العسكري، وذلك ضمن وثائق استخباراتية رُفعت عنها السرية في ذلك الوقت. ورجّح أحد المسؤولين الأميركيين في وزارة الخارجية حينها، بأن المسؤولين في سجن صيدنايا العسكري يقتلون ما لا يقل عن 50 معتقلاً يومياً، مضيفاً: "رغم أن الفظائع العديدة للنظام موثقة بشكل جيد، فإننا نعتقد أن المحرقة محاولة لتغطية حجم عمليات القتل الجماعي التي تحدث في سجن صيدنايا".

كما تشير تقارير حقوقية سورية، منها ما تم رفعها إلى لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سورية، إلى وجود مقابر وأفران حرق للجثث في محيط مستشفى المزة العسكري المعروف بالرمز 601 في دمشق، وأهمها الشهادة التي قدمها شاهد يحمل رمز "Z 30.07.2019" أمام محكمة ألمانية، حول مقابر جماعية لضحايا قضوا على يد النظام السوري في دمشق ومحيطها بين عامي 2011 و2017. والذي قال، بعدما عرف بـ "حفار القبور"، إنه كان عاملاً مدنياً في مجال دفن الموتى قبل الثورة السورية. وفي شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 2011، جمع ضابطان عدداً من العمال المدنيين، وكانوا قرابة عشرة أشخاص، وعينوا الشاهد مشرفاً عليهم، وأصبحوا يجبرونهم على الذهاب معهم إلى المستشفيات العسكرية، حيث يجدون شاحنة براد كبيرة أو اثنتين بانتظارهم، يقومون بعدها بمرافقة هذه البرادات إلى أماكن معينة ودفن الجثث الموجودة فيها ضمن مقابر جماعية.
وكان الشاهد ينقل الجثث من مستشفيات حرستا وتشرين العسكريين، والمواساة والمجتهد المدنيين. وبحسب الشاهد، هناك مكانان للدفن، الأول في نجها، البعيدة عن دمشق حوالي 15 كم، والثاني في القطيفة وتبعد عن دمشق حوالي 35 كم، وهما منطقتان عسكريتان يمنع المدنيون من دخولهما. وكان الشاهد يدخلهما مع العمال بعد الحصول على ورقة "مَهمة" تسمح لهم بالدخول.
وأظهرت صور عبر الأقمار الصناعية لمنظمات دولية حفر مقابر جماعية في منطقة القطيفة، التي تعد منطقة ذات حضور عسكري كثيف، لا سيما للفرقة الثالثة في قوات النظام. ودعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عائلات المفقودين في سورية إلى عدم محاولة العثور بأنفسهم على جثث أقربائهم أو نبش المقابر لأن ذلك قد يعيق عملية التعرف على الجثامين. 
من جهتها طالبت رابطة المحامين السوريين الأحرار، وهي جهة حقوقية تنشط في مجال توثيق الانتهاكات، جميع القوى المتقدمة نحو سجن صيدنايا بحماية الوثائق والسجلات الموجودة داخل السجن، والتي تعد شاهداً على الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام، وضمان عدم إتلاف أو فقدان هذه الوثائق، وتسليمها للجهات الحقوقية المختصة بموجب إجراءات قانونية واضحة. كما طالبت بمنع أي عبث بمسرح الجرائم داخل السجن، بما في ذلك غرف التعذيب وأماكن الإعدام، لضمان استخدامها كأدلة جنائية في المحاكمات المستقبلية.
ودعت الرابطة إلى تشكيل لجنة حقوقية مستقلة تضم خبراء محليين ودوليين لتوثيق الانتهاكات التي حدثت داخل السجن، بما في ذلك جمع الأدلة المادية وشهادات الناجين.