مطاحن تونس... آلات قديمة تحيي المؤونة بلا ركود

21 أكتوبر 2023
لا تزال المطاحن القديمة تعمل في تونس (العربي الجديد)
+ الخط -

منذ أكثر من أربعين سنة، يقصد عبد الرحمن عرفاوي طاحونته في مدينة المنستير عند الساعة السادسة صباحاً يومياً كي يستقبل زبائنه، خصوصاً في موسم الصيف، حيث تُقبل الأسر التونسية على تحضير مؤونتها من التوابل والفلفل الأحمر والدقيق وغيرها من المواد الغذائية التي لا تستغني عنها ربّات البيوت لإعداد الأطباق التونسية.  
وكانت النساء في تونس تعدّ مؤونة التوابل والبهارات والفلفل بأنفسهن، ويأخذنها إلى مطاحن توجد في كل المدن والقرى. وجرى استغلال غالبية هذه المطاحن أيضاً في عصر الزيتون قبل أن تظهر المعاصر العصرية. 
والمطاحن في تونس من المظاهر القديمة جداً، وبينها المائية والحجرية التي تتضمن حجرين مستديرين يوضعان بعضهما فوق بعض، الأول سفلي ثابت، والثاني علوي متحرك يجري تدويره وتشغيله بواسطة دواب. واليوم يجري تشغيل مطاحن عصرية بالكهرباء. 

قضايا وناس
التحديثات الحية

يقول عبد الرحمن لـ"العربي الجديد": "أعمل في المطحنة منذ أكثر من أربعين عاماً. وقد تعلمت المهنة من والدي وجدي، فهذه مهنة العائلة، علماً أننا كنا نطحن القمح والشعير والسكر والتوابل والفلفل وكل شيء، أما اليوم فنطحن كميات أقل من القمح والشعير بعدما استغنت النساء عن تحضير الخبز في البيت، وينشط عملنا خصوصاً في فصل الصيف حين تقبل النساء على تحضير مؤونة السنة".
وعن الآلات التي يستخدمها في مطحنته، يقول عبد الرحمن: "يفوق عمر بعضها 200 سنة، وهي تطحن حبوب القمح وتحافظ على قشره الذي يتميّز بقيمته الغذائية الكبيرة، وكان يستعمل حتى في طهو الخبز قديماً، أما الآلات الحديثة فتطحن القمح وتتخلص من القشور، ما يحتم الاستغناء عن قيمة غذائية أساسية في القمح لاستخراج دقيق أبيض وبيعه إلى المخابز".

بعض الآلات عمرها 200 سنة (العربي الجديد)
بعض الآلات عمرها 200 سنة (العربي الجديد)

ويخبر غسان لعروسي، وهو صاحب مطحنة في مدينة سوسة، "العربي الجديد"، بأنه ورث المطحنة من أجداده، وبدأ العمل فيها حين كان في الـ18 من العمر، ويقول: "لم أجد صعوبة في تعلم المهنة، وحافظت على كل شيء قديم فيها، فبعض الآلات لدي يفوق عمرها 250 سنة ولا تزال تعمل بشكل جيد. ورغم انتشار الآلات الجديدة أفضل الحفاظ على ما ورثته، وقد اقتنيت بعض الآلات الحديثة، لكن كل شيء قديم ما زلت أحافظ عليه، فهو يذكرني ببداياتي في هذا العمل".
يضيف: "كنا نعمل أكثر قديماً بسبب طحن القمح للعائلات، أما اليوم فزاد العمل في طحن مواد التوابل والبهارات المهمة جداً في إعداد الأطباق التونسية، ولا تغيب عن أي مطبخ تونسي. ورغم ظهور مصانع تعليب وبيع البهارات والتوابل، لا تزال العديد من النساء تعدها بنفسها باستخدام خلطات تقليدية جرى توارثها جيلاً بعد جيل، كما كنا نطحن البقول والقهوة أيضاً، لذا لا تزال المطاحن موجودة في كل المدن والقرى التونسية، وينشط عملها خصوصاً خلال فصل الصيف". 

يستمر العمل في الطاحونة العتيقة (العربي الجديد)
يستمر العمل في الطاحونة العتيقة (العربي الجديد)

أيضاً، يقول الحاج خالد مباركي، الذي يعمل منذ أكثر من ثلاثين سنة في مطحنة قديمة حافظ على كل شيء فيها وسط مدينة نابل التي تشتهر بإعداد جميع أنواع التوابل وبيعها في عدة محافظات، لـ"العربي الجديد": "يقبل الناس على المطحنة لأنها مجهّزة بطريقة تقليدية جداً، وتحافظ على مذاق المواد، وهو ما اعتادوا عليه. وغالبية المطاحن في نابل تعمل بالوتيرة نفسها منذ القدم من دون أن يشهد عملها أي ركود".
يضيف: "غالبية المطاحن تطحن القمح لتزويد المخابز بمادة الدقيق، لكنها تراجعت عن توفير مادة القمح منذ عام 2020، كما تراجع الإنتاج المحلي بسبب نقص الأمطار والتغيرات المناخية التي أثّرت على إنتاج الحبوب في تونس". 

يطحن التوابل والفلفل (العربي الجديد)
يطحن التوابل والفلفل (العربي الجديد)

ويشدد على أن "المطاحن لم تختفِ ولم تغلق أبوابها، فهي لا تزال تعمل رغم انتشار مصانع إنتاج البقول والبهارات وغيرها، لأن عائلات تحضر مؤونتها بنفسها في المطاحن، كل منها بحسب حاجتها، ما جعل العديد من هذه المطاحن يتجاوز عمرها 200 سنة، وتواصل نشاطها الذي جعلها موطن شغل لكثير من العاطلين من العمل، خصوصاً أنّ تعلم المهنة ليس بالأمر المعقد أو الصعب". 

وتوجد في عدّة محافظات مطاحن تعمل بالحجارة كان أصحابها يشغلونها باستخدام دواب، لكن بعضها اليوم بات مخصصاً فقط لعصر كميات قليلة من زيت الزيتون بطريقة تقليدية، فيما توقفت غالبيتها عن العمل بسبب عدم إقبال التونسيين عليها، لكنها لم تغلق أو تهدم، بل ظلت مثل متاحف صغيرة تستقبل زواراً يومياً للاطلاع على أقدم المطاحن في تونس، لا سيما تلك الموجودة في وسط المدن الكبرى. 

المساهمون