عند تقاطع الشارع 41 في حي العمارات مع شارع محمد نجيب الرابط بين وسط الخرطوم والسوق المحلي، تتخذ ثلاث نساء وستة أطفال مشردين شجرة نيم معمرة مسكناً لهم. ويقول مالك المنزل المجاور لشجرة النيم إبراهيم عبدالله، إن الفتيات والنساء المشردات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 19 و37 سنة، يبدأن يومهن بتدخين السجائر من نوع لورد الرخيص، وشم الكحول المعروف شعبياً بـ "السيلسيون"، فيما يبحث الصغار عن بقايا الطعام في مطاعم شعبية لا تبعد عن الموقع الذي اتخذوه أكثر من كيلومتر.
ومع حلول منتصف النهار، يعود الأطفال بأكياس مليئة بأطعمة باردة من بقايا القراصة المصنوعة من دقيق القمح غير المبثور وعظام الدجاج والفول والخضار بالإضافة إلى الخبز. وبعد تناول الطعام، تنام النساء تحت ظل الشجرة. ومساء، ينمن على مقربة من حائط مهجور ليس بعيداً عن موقع الشجرة. وفي بعض الأحيان، يرتفع عددهن إلى 10 مشردات وقد يكن ثلاثاً بالإضافة إلى الأطفال.
بعد خمسة أيام على بدء القتال العسكري في 15 إبريل/ نيسان الماضي بين الجيش وقوات الدعم السريع، غادرن المكان. ويقول إبراهيم الذي ترك منزله صباح 21 إبريل متجهاً إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة هرباً من مدافع المتقاتلين إن أحداً لم يكترث لمصير النساء المشردات وأطفالهن. هرب جميع أهل المنطقة إلى خارج الخرطوم أو أطرافها، إلا أن المشردات لا يملكن المال للمغادرة، وليس لديهن ملجأ في العاصمة سوى الفضاء الواسع الذي مكثن فيه لأربعة أعوام.
المصير المجهول نفسه ربما ينسحب على حوالي عشرين ألف مشرد بحسب إحصائية غير رسمية. في المقابل، تتضارب الإحصائيات الرسمية بشأن عدد المشردين في الخرطوم. وفي الوقت الذي تقول فيه وزارة التربية والتعليم إن عددهم يتراوح ما بين 10 و14 ألف مشرد في كل من أم درمان والخرطوم وبحري، بينهم ثلاثة آلاف طفل، تفيد وزارة الرعاية الاجتماعية وشؤون المرأة والطفل بأن عددهم 25 ألف مشرد في ولاية الخرطوم وحدها، 60 في المائة منهم سودانيون والبقية من جنوب السودان والنيجر ونيجيريا وتشاد. هؤلاء كانوا يقيمون في مواقع محددة في الخرطوم، لكنهم اختفوا عقب تحول أجزاء واسعة من العاصمة مسرحاً لحرب الجنرالين المتصارعين على السلطة.
وفي محيط المسجد الكبير بسوق بحري، كان يقيم حوالي 1500 مشرد من الجنسين لسنوات طويلة، لكنهم تركوا مواقعهم إثر بدء الاشتباكات، كما يقول أحد أعضاء لجنة الجامع الكبير لـ "العربي الجديد" من مدينة عطبرة التي تبعد 310 كيلومترات شمال الخرطوم، وقد فر إليها بعد ثلاثة أيام على اندلاع المعارك.
أما مغيرة حسن حربية، وهو من سكان أم درمان، يتفق مع وصف وزارة الرعاية الاجتماعية وشؤون المرأة والطفل للمشردين بأنهم الجيل الثاني والثالث الذين قدموا إلى الخرطوم من مناطق الحروب والصراعات المسلحة بولايات السودان المختلفة. يضيف أنهم "أحفاد ضحايا الحروب في السودان. واليوم أصبحوا هم أنفسهم ضحايا للحرب، ولكن هذه المرة في المركز الذي كان يصدر الحروب". يتابع: "المشردون هم الفئة الأكثر تضرراً من الحرب. وفي الوقت الحالي، فإن مصيرهم مجهول".
اعتمد طرفا الحرب سياسة الأرض المحروقة، وقُتل الكثير من المدنيين في اليوم الأول للحرب التي انطلقت رصاصتها الأولى من وسط الخرطوم حيث المؤسسات الحكومية. ووجد الموظفون الذين وصلوا إلى أماكن عملهم مبكراً والتلاميذ أنفسهم في مرمى نيران الجنود، ما جعل بعضهم يمكث في المكاتب والمدارس لأكثر من أسبوع قبل أن تتدخل جهات عديدة من داخل وخارج السودان لإجلائهم.
وحتى اليوم، لم يُحصَ عدد الضحايا، ويتوقع أن يكون معظمهم من المشردين. ولا يكترث الطرفان المتقاتلان لسلامة المواطنين. ويقول مغيرة إن المشردين يتخذون من وسط العاصمة مركزاً لتجمعهم، وغالباً ما يتدبرون بأنفسهم. وحين اشتعلت الاشتباكات لم يهتم أحد بمصيرهم. ويتوقع أن كثيرين لقوا حتفهم في الأيام الأولى للحرب، ولم يجد المصابين منهم من ينقلهم إلى المستشفيات لتلقي العلاج. ويكثر عدد المشردين في حي الشهداء، وهو من أقدم أحياء أم درمان. ويقول أحد المواطنين في الحي إن عددهم يتجاوز 2700 مشرد، ويعيشون منذ سنوات طويلة في المنطقة المحيطة بسوق الشهداء ومستشفى أم درمان التعليمي ومستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية الواقعة على بعد حوالي كيلومتر من الشهداء. ولا يوجد في تلك المنطقة سوى عدد قليل منهم، وأكثرهم من الأشخاص المعوقين والمرضى.
أحد المشردين الذي يبلغ من العمر 43 سنة، كان يقيم ومجموعة أشخاص قرب مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية، وكان قد خسر قدمه اليسرى قبل عامين في حادث مروري. كان يقف على مقربة من قسم يتبع لشرطة الاحتياطي المركزي الذي دمر بالكامل من قبل قوات الدعم السريع في 23 إبريل الماضي، وقد أنهكه الجوع. يقول إنه خسر ثلاثة من أصدقائه في الأسبوع الأول من الاشتباكات، فيما أصيب آخرون. وفرّ البعض إلى ناحية منطقة جبل أولياء (40 كيلومتر) جنوب الخرطوم، إلا أنه عجز عن اللحاق بهم بسبب بتر قدمه.
ولا يزال عدد قليل من المشردين في أم درمان يعانون من الجوع والعطش في ظل عدم توفر الطعام وانقطاع المياه. وما من أحد يقدم لهم الرعاية في مثل هذه الأيام. وأغلقت كافة المطاعم وتعرضت الأسواق للسرقة. يشار إلى أنه في يونيو/ حزيران 2011، لقي أكثر من 80 مشرداً حتفهم في يوم واحد في أم درمان، علماً أن السلطات الرسمية أعلنت أن عددهم لا يتجاوز 71 مشرداً. ولقي ثمانية مشردين مصرعهم في ظروف غامضة بمدينة ربك بولاية النيل الأبيض. وأصدرت وزارة العدل السودانية قراراً بتشكيل لجنة للتحقيق في وفاة هؤلاء. وترأس اللجنة كبير المستشارين بابكر أحمد علي قشي، وضمت ثلاثة مستشارين من وزارة العدل بالإضافة إلى عناصر من الشرطة، وممثل عن وزارة الصحة، وممثل عن إدارة الصيدلة، وممثل عن الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس. إلا أن وزارة الداخلية استبقت نتائج تحقيق لجنة وزارة العدل، وأعلنت أن سبب الوفاة هو تناولهم مادة الإيثانول أو الكحول الإيثيلي.
ولم تعلن أي نتائج من قبل اللجنة، ولم يتم القبض على المتهمين، وانتهى الأمر بإصدار بيان من وزارة الداخلية. ولا يزال المشردون يختفون ويموتون. في هذا الإطار، يتوقع الصحافي والناشط نعمان غزالي موت الكثير من المشردين خلال هذه الاشتباكات. يضيف أن من بقي على قيد الحياة منهم، فيعانون من جراء العطش والجوع، عدا عن الخوف إذ إنهم عرضة للموت في أية لحظة. ويوضح أن "وجود المشردين في مناطق الاشتباكات الرئيسية في وسط العاصمة، جعلهم أكثر عرضة للخطر من قبل آخرين توفر لهم الظروف المناسبة للاختباء".
ومع دخول الحرب أسبوعها الخامس والتي شهدت نهباً وحرقاً للأسواق، وإغلاق المحال التي كانت توفر الطعام والمطاعم، خلت المدينة تقريباً من السكان. بالتالي، لن يجد المشردون ما يسد رمقهم. وهذه مدة كافية لموت من نجا من الرصاص، يقول نعمان.
وتقول وزارة الرعاية الاجتماعية وشؤون المرأة والطفل بولاية الخرطوم في آخر تقرير لها عن المشردين إن هناك 2270 طفلاً مشرداً على الأقل في الخرطوم. ونفى عدد من الأطباء بمستشفيات الخرطوم وجود مصابين أو موتى من المشردين ضمن ضحايا الحرب الدائرة حالياً. وأعلنت نقابة طبية ارتفاع عدد الوفيات بين المدنيين ووصولها منذ بداية الاشتباكات إلى 850 حالة وفاة، و3394 إصابة، من دون احتساب القتلى والمصابين الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى المستشفيات، ولم يشملهم الحصر. أعلنت السلطات السودانية أن الهلال الأحمر القطري أرسل مساعدات طبية إلى 6 ولايات سودانية ضمن خطة لإغاثة المتأثرين من الأزمة في السودان. وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت في وقت سابق أن عدد الضحايا بلغ 705 قتلى و5287 مصابا منذ نشوب القتال في البلاد. وكانت قد ناشدت دول العالم تقديم ثلاثة مليارات دولار لتمويل العمليات الإنسانية في السودان والدول المجاورة التي تؤوي لاجئين فارين من الصراع هناك. ونزح مئات الآلاف من السودانيين بسبب القتال.