لن يحتفل المسيحيون في قطاع غزة الذي يشهد حرباً مدمّرة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعيد الميلاد، تماماً كما هي حال مواطنيهم الفلسطينيين في كلّ الوطن المحتلّ. ويعبّر أقارب هؤلاء في خارج غزة عن قلقهم على أحبائهم وسط المذبحة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي.
خليل صايغ واحد من هؤلاء، وهو لم يعد قادراً على النوم أو العيش بطريقة طبيعية منذ شهرَين بسبب شعوره بالخوف والقلق على عائلته في قطاع غزة. قبل أيام من عيد الميلاد، تلقّى خبر وفاة والده في داخل كنيسة نزح إليها في مدينة غزة شماليّ القطاع المحاصر والمستهدف من قبل الاحتلال.
ويروي صايغ البالغ من العمر 29 عاماً والمقيم في الولايات المتحدة الأميركية لوكالة فرانس برس: "ذهب والداي إلى كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية. شقيقتي موجودة كذلك في تلك الكنيسة. شقيقتي الأخرى وزوجها في كنيسة القديس برفيريوس (التابعة لبطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية) مع أطفالهما الثلاثة، وقد ولد أحدهم في خلال الهدنة" التي طُبّقت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي واستمرّت أسبوعاً.
يضيف صايغ: "تلقّيت خبر وفاة والدي من طريق قريب في رام الله (في وسط الضفة الغربية المحتلة) كان قد تواصل معه أحد الكهنة"، موضحاً أنّ الوفاة حصلت بسبب نقص الرعاية الطبية الملائمة له.
يُذكر أنّ النظام الصحي في شمال قطاع غزة انهار كلياً، بحسب ما أكدت منظمة الصحة العالمية أخيراً.
ويوضح صايغ أنّ التواصل نادر جداً مع أفراد عائلته، في ظلّ الانقطاع الكبير للكهرباء والإنترنت والاتصالات منذ بدء الحرب على غزة. ويتابع: "لم أتواصل معهم مباشرة منذ أسابيع"، مشيراً إلى أنّ ما يحدث في العادة، أنّ أحد النازحين الذي يملك شريحة هاتف تابعة لشبكة اتصالات خلوية يتواصل مع شخص في خارج القطاع، فيتولّى الأخير نقل الأخبار، "وهكذا يخبر أحدنا الآخر أنّ عائلتك بخير"، على سبيل المثال.
لا صوت للناس في قطاع غزة
ويصف صايغ الذي يعمل في مجال البحوث السياسية في الولايات المتحدة الأميركية كيف تمرّ "أيام وأيام من دون أن نتلقّى أيّ خبر. نعيش في خوف وشعور بعدم اليقين. لا نعرف إذا كانوا (الأهل) على قيد الحياة أو لا، إذا كانوا جياعاً أو يأكلون، إذا كانوا قادرين على الوصول إلى المياه أو لا".
وإذ يؤكد أنّ "الطعام غير متوافر، وأنّ ثمّة نقصاً شديداً في المياه ونقصاً في الغذاء ونقصاً في الاحتياجات الأساسية"، يصف الأمر بأنّه "صعب جداً".
يُذكر أنّ 1.9 مليون من سكان قطاع غزة نزحوا وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، نتيجة القصف الذي يترافق منذ 27 أكتوبر الماضي بهجوم بري ومعارك على الأرض.
ويقول خليل صايغ إنّ حياته توقّفت بالفعل، مؤكداً بقوله: "لا أستطيع العمل بنسبة 100 في المائة. الأمر الوحيد الذي يدفعني إلى الاستمرار، أنّني أتحدث عمّا يحدث. أتذكّر أنّ الناس في غزة لا صوت لهم".
وأوقف صايغ دراسته التي كان ينوي من خلالها الحصول على شهادة في حقوق الإنسان بعد الحرب، "لأنّني لم أعد أرى طريقة لتطبيقها في هذا الوقت"، بالإضافة إلى الضغوط التي يشعر بها وتمنعه من التركيز.
وصايغ الذي نشأ في غزة، لم يلتقِ عائلته منذ أعوام. لكنّه يتابع أخبارها، ويروي أنّ شقيقته أنجبت طفلاً في "وقت الهدنة وأسمته خضر. لم أرَ صورته، كلّ ما أعرفه عنه أنّه موجود". ولصايغ شقيق أصغر في مدينة خانيونس في جنوب القطاع، و"هو مريض (...) يخضع لجلسات غسل كلى هناك".
كنائس قطاع غزة في مرمى نيران الاحتلال
وكانت كنيسة القديس برفيريوس قد تعرّضت في 19 أكتوبر الماضي لقصف إسرائيلي، استشهد في خلاله نحو 20 فلسطينياً كانوا قد لجأوا إلى المرافق التابعة للكنيسة بعدما ظنّوا أنّها أكثر أماناً من بيوتهم.
وفي 16 ديسمبر/ كانون الأول الجاري استشهدت امرأتان في كنيسة العائلة المقدسة بمدينة غزة في ظروف مشابهة. وقد ندّد البابا فرنسيس حينها بأنّ "مدنيين من دون حماية يُستهدفون بقصف وإطلاق نار"، فيما ادّعت السلطات الإسرائيلية أنّ مسلحين من حركة حماس كانوا موجودين في المنطقة.
ويفيد مسؤولون في كنائس مسيحية في قطاع غزة بأنّ عدد المسيحيين الذين يعيشون في قطاع غزة اليوم يقارب الألف، بعد أن كانوا سبعة آلاف قبل عام 2007.
وتروي راهبة في القدس المحتلة، طلبت عدم الكشف عن هويتها، لوكالة فرانس برس أنّ راهبتَين من رهبانية الوردية المقدسة موجودتان حالياً في كنيسة العائلة المقدسة بمدينة غزة. وتشير إلى أنّ "التواصل معهما يجري بصعوبة شديدة، مرّة كلّ ثلاثة إلى أربعة أيام. كلّ ما نسمعه منهما، أنّهم (الموجودون في الكنيسة) بخير. وتطلبان منّا أن نصلّي من أجلهم".
وتوضح الراهبة أنّ الاتصال ينقطع في بعض الأحيان، و"نحصل على رسائل صوتية عبر تطبيق واتساب". تضيف: "قالتا لنا، يوم الاثنين الماضي، إنّ المياه غير متوافرة. الناس جميعاً هناك لم يستحمّوا منذ أسبوعين، ومياه الشرب بالكاد تكفي".
وتؤكد الراهبة نفسها أنّ "الوضع سيّئ جداً. فليكن الله في عونهم". وتتابع: "نحن نخجل أمام المعاناة التي يعانيها أهل غزة جميعاً، مسلمين ومسيحيين".
عيد الميلاد وسط الحرب على قطاع غزة
في القدس المحتلة، يقول الأب إبراهيم نينو، مسؤول التواصل في البطريركية اللاتينية، لوكالة فرانس برس إنّ "التواصل مع أهلنا في كنيسة العائلة المقدسة (في مدينة غزة) يتمّ من خلال الكاهن المساعد الموجود هناك أو الراهبات أو أفراد آخرين. وبعد محاولات كثيرة (...) نتمكّن من سماع أخبارهم".
وعن وضع الموجودين حالياً في كنيسة العائلة المقدسة، يقول الأب نينو إنّ "ثمّة طعاماً ومياهاً وكهرباء متوافرة لأيام معدودة، لذا يعملون على التقليل من استخدامها قدر الإمكان".
وكان المسؤولون الكنسيون في القدس المحتلة وبلدية مدينة بيت لحم بالضفة الغربية المحتلة قد اتّخذوا قراراً في الشهر الماضي بعدم تنظيم "أيّ احتفال غير ضروري" بعيد الميلاد تضامناً مع سكان غزة. لكنّ الأب نينو يشير إلى أنّ المسيحيين في غزة سيحتفلون بقداس عيد الميلاد.
بالنسبة إلى خليل صايغ، "لا بدّ من أن يكون عيد الميلاد زمناً للأمل. ومن الصعب جداً الاحتفال أو الشعور بأيّ بهجة فيما المذبحة مستمرّة في غزة بحقّ المسلمين والمسيحيين، وفيما يموت مدنيون أبرياء".
يضيف صايغ: "أنا في الواقع مرهق جداً ومكتئب، لكنّني ما زلت أفرح بحقيقة أنّنا نعلم بأنّ الله معنا (...) هو يشعر بألم الناس، كلّ الناس، لا المسيحيين فحسب، بل كلّ الناس في غزة الذين يعانون من الألم والجوع والموت والدمار".
(فرانس برس، العربي الجديد)