رفعت فاجعة مقتل وجرح عشرات في الحريق الذي اندلع في مستشفى الحسين بمدينة الناصرية جنوبي العراق في 12 يوليو/ تموز الماضي، الغطاء عن واقع القطاع الصحي في البلاد، في ظل تحذيرات من قرب انهياره بالكامل بسبب سوء حال منشآت المستشفيات المشيّدة منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وعدم الاهتمام بتحديث النظام الصحي وبناه التحتية طوال الأعوام الـ18 الماضية التي أعقبت الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، وإطاحة نظام الرئيس السابق صدام حسين.
وكانت ردهة الأطفال في مستشفى "خدج" بالعاصمة بغداد شهدت أحد أكبر مآسي حوادث الحرائق في العراق عام 2016، حين قتِل 20 رضيعاً وأصيب عشرات آخرون إضافة إلى عدد من النساء بحروق بالغة. وأعقبت ذلك حوادث أخرى مماثلة شملت مستشفيات في مدينتي البصرة ومحافظة ميسان، ثم مستشفى ابن الخطيب ببغداد قبل أشهر، حين قضى أكثر من مائة مريض وجرح 110 آخرون، ما دفع وزير الصحة حسن التميمي إلى الاستقالة، وصولاً إلى حادث مستشفى الناصرية الأخير. ويعزو مسؤولو جهاز الدفاع المدني غالبية الحرائق إلى تهالك مباني المستشفيات وقِدَمها، وانعدام التجهيزات الخاصة بالإطفاء داخلها، إضافة إلى افتقارها إلى مخارج طوارئ مناسبة، علماً أن التحقيق الخاص بحادث مستشفى ابن الخطيب ببغداد كان ألزم وزارة الصحة "بفرض عقوبات انضباط تتناسب مع خطورة الحادث"، بينها إعفاء مدير المستشفى والمعاون الإداري، ومسؤول الدفاع المدني، ومدير صحة بغداد من مناصبهم.
يوضح مسؤول بارز في وزارة الصحة تحدث لـ "العربي الجديد" طلب عدم الكشف عن اسمه، أن "غالبية المستشفيات والمنشآت الصحية في البلاد شيّدت قبل 40 أو حتى 50 عاماً، ولم تخضع طوال أعوام طويلة لأية عمليات تأهيل أو تطوير في هندستها الداخلية والخارجية وبنيتها الأساسية وتجهيزاتها.
ويشير إلى أن "نحو 190 مستشفى حكومياً شيّدت بين عامي 1956 و2001 تتوزع في أنحاء العراق، بينها 45 توجد في العاصمة بغداد. وغالبيتها ضخمة وذات قدرات استيعاب كبيرة جداً، وبينها مستشفى الرشيد العسكري ومستشفى غالب بن عبد الله الليثي العسكري أيضاً الذي أغلق بعد حل الجيش السابق، ونُهبت محتوياته خلال الغزو الأميركي عام 2003".
ويحدد المسؤول ذاته عدد المستشفيات الحكومية التي شيّدت بعد عام 2003 بتسعة فقط، بينها أربعة بتمويل من منظمة الأمم المتحدة والجيش الأميركي. ويكشف وجود 235 مستشفى خاصاً "تعكس واقع اعتبار القطاع الصحي استثماراً جيداً في العراق، علماً أن هذه المستشفيات تقدم خدمات طبية بكلفة باهظة، ما يجعل روادها من أصحاب الدخل المرتفع، في وقت يعيش أكثر من 30 بالمائة من الشعب تحت خط الفقر".
ويلفت المسؤول إلى أن "عدد الأطباء في البلاد لا يتجاوز 27 ألفاً، مع وجود نقص حاد في تخصصات محددة، مثل التخدير وطب الأعصاب وجراحة المسالك البولية، وأن القدرة الاستيعابية للمستشفيات لا تزال أقل من 45 ألف سرير، وهو رقم غير منطقي في بلد يسكنه أكثر من 40 مليون شخص، علماً أن الغريب أن جائحة كورونا التي ضربت العالم نهاية عام 2019، لم تحفز المسؤولين على إيجاد حلول أو التفكير في تسريع بناء مستشفيات حكومية، من أجل رفع عددها إلى 300 مستشفى، وهو ما تحتاجه البلاد فعلياً، في وقت يجب هدم نحو 80 مستشفى باتت غير صالحة للاستخدام". وتشير إحصاءات رسمية إلى أن نسبة الأطباء في العراق لا تتجاوز 0.8 لكل ألف مواطن، والممرضين 2.1 لكل ألف مواطن. أما عدد أسرّة المستشفيات فتبلغ 1.1 لكل ألف مواطن.
محاصصة وصفقات
يرى المسؤول أن هيكلية وزارة الصحة تواجه فساداً مروعاً، وتخضع منذ أكثر من 16 عاماً لتغييرات أضعفت إدارتها فرضتها معادلات المحاصصة الطائفية والحزبية والتجاذبات والصراعات السياسية بين حزب الدعوة الإسلامية بزعامة نوري المالكي، والتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر. وكانت صحيفة "المدى" القريبة من دوائر صنع القرار في بغداد ومحافظة أربيل، كشفت أن الميزانيات المالية السنوية للحكومة منحت، في الأعوام الـ14 الماضية، وزارة الصحة مبالغ مقدارها 50 تريليون دينار (نحو 40 مليار دولار وفقاً لأسعار الصرف المحددة بين عامي 2007 و2019). كما تلقت الوزارة خلال الفترة ذاتها منحاً ومساعدات عدة من الأمم المتحدة واليابان والولايات المتحدة وألمانيا ودول أخرى.
وفي أكبر دليل على الفساد المستشري في المؤسسة الصحية، اتهمت وزيرة الصحة عديلة حمود عام 2017 بالتورط في فضيحة شراء 26,140 حذاء طبيا من البرتغال في صفقة قيمتها 900 مليون دولار.
ويكشف الناشط الحقوقي وعضو التيار المدني، سلام الموسوي، الذي يشارك في حملة تهدف إلى منع الإفلات من العقاب، أن "هيئة النزاهة أعدّت نحو 500 ملف فساد خاص بوزارة الصحة، لكن التجاذبات والتأثيرات السياسية أوقفت تفعيل نظر الهيئات المختصة فيها". يضيف: "وزارة الصحة منهكة بالكامل بسبب المحاصصة وسيطرة الأحزاب عليها، وتفشي الفساد فيها، ما جعل الأطباء يهربون للعمل في دول الخليج ودول أخرى، وفرض معاناة القطاع من نقص حاد في عدد كبير من التخصصات، ما يؤكد أن الوزارة تشكل فعلياً بيئة لطرد الكفاءات، في حين لا يطبق أي قانون لحماية حقوق الأطباء والعاملين الصحيين". وحمّل الموسوي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي مسؤولية هدر فرص بناء عشرات من المستشفيات الحديثة، حين ارتفع سعر برميل النفط الواحد إلى 120 دولاراً، كونه أغفل معالجة مشكلات الفساد غير المنطقية في حكومتين ترأسهما.
لا ثقة
يقول الطبيب المتخصص في الأورام، علي العزي، الذي غادر العراق قبل نحو ستة أعوام، بعدما هدده مسلحون إثر خلاف نشب مع موظفين في وزارة الصحة، لـ "العربي الجديد" إن "كل الظروف غير ملائمة لاستمرار عمل الأطباء ذوي الكفاءة غير التابعين للأحزاب داخل البلاد، ما أوجد ظاهرة هروبهم المستمر إلى الخارج، فهم يهددون منذ عام 2003 من مليشيات وجماعات مسلحة، وكذلك من أهال يفقدون مرضاهم، كما أن الدولة لا تحميهم في ممارستهم المهنة". ويشير إلى أنه يتواصل اليوم مع أطباء عراقيين آخرين في دول مختلفة داخل أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا، ودول عربية.
وكان المتحدث باسم وزارة الصحة العراقية، الدكتور سيف البدر، قال في تصريحات صحافية سابقة أن أكثر من 20 ألف طبيب هاجروا منذ عام 2003، وبينهم أصحاب كفاءات نادرة، في حين أن عدد الأطباء العاملين لا يتجاوز 30 ألفاً يخدمون أكثر من 40 مليون مواطن.
ووفق تقرير أعدّه أخيراً موقع "نومبيو" المتخصص في البحوث وتصنيف الدول بحسب كلفة العيش وظروفها، ونشرته مجلة "سيو وورد"، يحتل العراق المركز ما قبل الأخير في التصنيف العالمي، وتحديداً المركز 87 بين 88 دولة شملها المؤشر.
من جهته، يقول عادل شهاب الذي رافق شقيقه لإجراء عملية استئصال للزائدة الدودية في لبنان لـ "العربي الجديد": "لا ثقة في مستشفيات العراق حتى للخضوع لعملية جراحية بسيطة. وقبل ثلاثة أعوام، فقدت عائلتي أحد أفرادها نتيجة خطأ في التشخيص الطبي". يضيف: "يعرف جميع العراقيين الواقع الصحي السيئ في بلدهم حيث لا يمكن إحصاء عدد الأشخاص الذين قضوا بسبب تشخيص طبي خاطئ، وضحايا العمليات الطبية الفاشلة، أو الأدوية غير الفاعلة أو تلك التي انتهى مفعولها، لذا يفضل كثيرون إجراء حتى العمليات البسيطة في الخارج".
لا ينتهي الحديث في العراق عن أن وزارة الصحة، كما باقي الوزارات، بؤرة للمكاسب المالية والسياسية للأحزاب. وهو أمر متداول في الشارع على غرار الغرف المغلقة للقادة السياسيين.
وكان وزير الصحة السابق علاء علوان الذي استقال عام 2019، بعد عام واحد على توليه المنصب، قال في حديث لوكالة "رويترز": "تراجع الوضع الصحي في شكل كبير في العراق خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. وأسباب هذا الواقع مرتبطة بعدم إعطاء الحكومات المتعاقبة أولوية للنظام الصحي". وبرر علوان استقالته بالفساد المستشري الذي "لا يمكن التغلب عليه"، وتعرضه لتهديدات من أطراف تعارض جهوده في إصلاح عمل القطاع الصحي.