مع الساعات الأولى لانطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا، في 24 فبراير/شباط الماضي، اختار كُثر في أوروبا قيادة سيارات حمّلوها بمساعدات عينية مختلفة إلى بولندا أو أوكرانيا نفسها. وبلغت المبادرات والرغبة في المساعدة درجات لا سابق لها، وصولاً إلى استئجار البعض شاحنات لتحميل تبرعات عينية وقيادتها ضمن مجموعات إلى بولندا. وهكذا تكدست، على سبيل المثال، جبال من الملابس وكراتين وأكياس الأغذية والدمى والألعاب في بلدة ميديكا البولندية، قبل أن تطالب المنظمات الدولية المتخصصة في تنسيق جهود الإغاثة بالتوقف عن تقديم مساعدات بطريقة غير منسّقة، والتعاون مع المنظمات غير الحكومية في مختلف دول القارة لتقديم مساعدات نقدية، وليس عينية. ودخلت الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي ومنظمات للإغاثة واللاجئين وغيرها على الخط لتأمين احتياجات حوالى 13 مليون أوكراني يعيشون في حال طوارئ بسبب الحرب.
ولا شك في أن التضامن الأوروبي الإنساني مع أوكرانيا أنتج صورة لم تظهر حتى أثناء أزمة قدوم حوالى مليون لاجئ إلى القارة عام 2015. تدفقت تبرعات عينية ومادية هائلة إلى مخازن ونقاط لمنظمات الصليب الأحمر في أكثر من مكان في أوروبا، وحتى داخل أوكرانيا نفسها التي تتعرض لضربات ومحاولة للسيطرة على مدنها، حيث ينسّق الصليب الأحمر الأوكراني أعماله بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني وجمعيات خيرية كنسية ومسلمة، لمساعدة ملايين من أكثر من 40 مليون مواطن يعيشون في أسوأ ظرف منذ الحرب العالمية الثانية.
تنظيم التضامن الأوروبي
ومع تحوّل منظر الملابس الشتوية الهائل إلى ما يشبه مكباً ضخماً في بلدة ميديكا البولندية المحاذية للحدود مع أوكرانيا، والتي لم تشكل إلا جزءاً من قوافل هائلة قدمت من أنحاء أوروبا، وبينها النرويج التي تغادرها نحو 15 شاحنة مساعدات يومياً، وتجمع أكوام المساعدات على الحدود، وبينها ألعاب للأطفال وأدوات أخرى كثيرة، إلى جانب علب وكراتين وأكياس طعام، بادر الصليب الأحمر البولندي بالتعاون مع منظمات إنسانية محلية وأوروبية قدمت إلى المكان، إلى تنظيم هذه الأكوام ووضعها في مستودعات كبيرة، بعدما أفسدت مياه الأمطار والثلوج قسماً كبيراً من الملابس والطعام.
أيضاً وصل إلى الحدود البولندية - الأوكرانية عشرات من المواطنين الأوروبيين العاديين من مختلف الخلفيات الإثنية والدينية، والذين عكسوا حيوية التفاعل مع الحرب بدرجة لا تقل عن مستوى التفاعل السياسي والإعلامي، وقادوا سيارات محمّلة بأكياس مساعدات، ثم لم يعودوا بها فارغة، بل نقلوا فيها أوكرانيين إلى وجهات مختلفة، ما أكد تزايد الكرم والاستعداد لاستضافة مهجّري الحرب الأوكرانية.
وفي دول إسكندنافيا، وتحديداً الدنمارك والسويد، وألمانيا، زادت حملات التبرع مع مشاركة الصحافة ووسائل الإعلام فيها. وقد تجاوزت في الدنمارك الأرقام القياسية للحملات السنوية للصليب الأحمر، إذ جمع نحو 200 مليون كرونة (30 مليون دولار) في يوم واحد، الاثنين الماضي.
وخلال الساعات الأخيرة، طالبت منظمات الصليب الأحمر في النرويج والدنمارك والسويد ودول البلطيق، وأخرى معنية بشؤون الإغاثة، المواطنين الأوروبيين، بأن يستبدلوا جمع التبرعات العينية بأخرى مالية، "لأنه لم يعد يمكن تحمل جبال التبرعات"، وحذرتهم من وجود "مستغلين" للأزمة يجمعون تبرعات زائفة بهدف تحقيق أرباح تحت ستار انتشار روح التضامن بين الأوروبيين.
كمّ من المشاكل
لكن مشهد التضامن الأوروبي مع الشعب الأوكراني لا يخفي واقع عدم تقدير المنظمات الدولية الحجم الفعلي للكارثة الإنسانية على الأرض، في ظل معايشة ملايين الأوكرانيين الحرب، وتزايد الضحايا. وحتى الأمم المتحدة وجدت نفسها عاجزة أمام النقص الطبي والإغاثي مع توقف الحياة في البلد المنكوب بالحرب، وناشدت، الثلاثاء الماضي، المجتمع الدولي، تأمين أكثر من مليار دولار في الأشهر المقبلة، علماً أن مكتبها لتنسيق شؤون الإغاثة أشار إلى أن حوالى 13 مليون أوكراني يعيشون في أجواء تتطلب توفير متطلبات ضرورية من سكن وغذاء ورعاية صحية.
أيضاً، دقت منظمات صحية مختلفة، بينها "أطباء بلا حدود" المتواجدة في أوكرانيا، والتي بدأت مواءمة استجابتها مع تطوّر وضع النزاع، وتعمل من بولندا وأماكن أخرى في دول الجوار، ناقوس الخطر في شأن نفاد الأكسجين الضروري، ليس فقط لمرضى جائحة كورونا، بل لكل إجراءات الاستشفاء.
واعتبرت الأمم المتحدة أن تأمين المال "ضروري لإنقاذ حياة الناس، فالأمر لا يتعلق فقط بالأشخاص الذين نزحوا عن بيوتهم إلى دول الجوار، بل بالسكان الذين بقوا في الداخل، ويواجهون احتدام الصراع الذي يتطلب أيضاً توفير مستلزمات بقائهم في مواقعهم".
ولفتت إلى أن "التركيز على ما يجري على الحدود الغربية، لا يعني أن الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب لا تؤثر على سكان شرق أوكرانيا المحاذية لروسيا، إذ أجلى انفصاليو الشرق الموالين لموسكو قبل اندلاع الحرب الحالية آلاف النساء والأطفال إلى داخل روسيا، علماً أن النزاع الحالي يمنع وصول المنظمات والمؤسسات العاملة إلى حدود دول مجاورة".
وتنشط منظمة "أنقذوا الطفولة" ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ومفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة، ومؤسسات إنسانية دولية أخرى، على خط إغاثة الأوكرانيين وتنسيق الأعمال، بعدما زاد توافدهم إلى حدود دول الجوار. وتتوقع الأمم المتحدة أن يؤدي استمرار النزاع والحرب في أوكرانيا وارتفاع معدلات التهجير بسبب القصف إلى "أكبر أزمة لاجئين في القرن الحالي".
من جهته، تلقى الصليب الأحمر الأوكراني دعماً من مئات المتطوعين من فروع الصليب الأحمر في السويد والدنمارك ودول البلطيق. وأرسل مجلس اللاجئين الدنماركي حوالى 230 متطوعاً للعمل على الأراضي الأوكرانية، وحذا المجلس النرويجي للاجئين حذوه.
عمليات إنسانية غير جديدة
ولا بدّ من الإشارة إلى أنه حتى قبل اندلاع الحرب على البلد لم يكن الوضع الإنساني جيداً بالنسبة لحوالى 3 ملايين أوكراني عاشوا بالاعتماد على المساعدات الضرورية، بحسب ما يقول الصليب الأحمر، علماً أن أوكرانيا ضمت حوالى 730 ألف مهجر داخلي بسبب النزاع المسلح الذي تشهده مناطق الشرق منذ عام 2014. ما يفرض معرفة المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، ومؤسسات خيرية وإغاثية أخرى بينها "أطباء بلا حدود" و"كاريتاس"، واقع أوكرانيا باعتبارها تتواجد فيها منذ بدء النزوح الداخلي. لكن بعض هذه المنظمات اضطرت إلى تجميد عملها في المناطق القريبة من خطوط التماس في الشرق المحاذي للحدود مع روسيا. وقد شبّه البعض الوضع الإنساني الحالي في أوكرانيا بما جرى بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، وفقاً لوصف مدير الاتصالات في الصليب الأحمر الدنماركي كلاوس نورسكوف.
وتتلقى قائمة طويلة من عشرات المنظمات الإنسانية وغير الحكومية المحلية في أوكرانيا، إلى جانب الصليب الأحمر المحلي، مساعدات أوروبية لتخفيف وطأة الحرب والتشرّد. ومن بين أهم المتلقين مستشفى وعيادة الأطفال في مدينة دنيبرو، حيث يشرف الأطباء المتطوعون على علاج وفحص حوالى 70 ألف طفل، بعدما جرى تجهيز المستشفى بأحدث الأدوات التي أمّنتها مساعدات غربية متواصلة، وتوسيع أجنحة استقبال الصغار.
وتشارك مؤسسات عدة تابعة للكنائس في حملات تقديم العون للأوكرانيين، بينها تلك المنتشرة في دول إسكندنافيا، باسم "العون الكنسي الطارئ"، والتي تتعاون مع عدد من المتطوعين المسلمين داخل أوكرانيا، خصوصاً من "مجلس المسلمين" الذي يمثل حوالى نصف مليون أوكراني مسلم، وأيضاً مع عدد من المنظمات التي تمثل ناشطين شبانا مسلمين سبق أن ساهموا في تنسيق جهود إغاثة في اليونان والمجر، وفي حالات طارئة أخرى على الأراضي الأوروبية.